دراوش المولوية .. وجلال الدين الرومي إنهم في الشوك لكنهم الوردة




نضال حمارنة*

خاص ( ثقافات )


الطرق الصوفية كثيرة ومُتشعبة ؛ فمنذ أن اختار أوائل العارفين حياة الزهد والتأمل ، أو بالأحرى البحث عن منافذ جديدة غير متعارف عليها للتقرب لله .. إن في استنباط الأفكار والمُثل التي تُقرب المفاهيم الأكثر بساطة .. والأكثر حكمة .. والأكثر تواضعاً ..ومن ثم لاستحداث عالم تسوده المحبة والتعاون .. يجمع ولا يفرق بين البشر أو الأديان جميعاً سماوية أو ما قبل سماوية . هؤلاء الأوائل مثلوا حركة التدين الشعبي إذا لم تخني التسمية ؛ لكون البسطاء يملكون حس التمييز العالي لكشف المُتشدق أو المستفيد من أرباب الشعائر بحكم علاقته بالحاكم ، وبين الورع الصادق العارف المتواضع والمتبسط .. لذلك نجد عبر التاريخ هؤلاء الخارجين عن مؤسسة التدين الرسمي ..هؤلاء المتأملين في النصوص وفي أحوال الناس .. وما أكثر المدارس الصوفية التي أحياها الناس لأنهم اتّبعوا أصحابها وصدقوهم .. ومع الأيام تحولت مراقد قبورهم إلى تكايا أو أضرحة يرتادها البسطاء ؛ إما لطلب العون باعتبارهم فاقدي العون ، ولكي لا يخسرون الرجاء هاهم يتقدمون من أوليائهم للصلاة وتقديم الطقوس والأدعية . إلا أن الإيمان روحياً بالنسبة لهم يحتاج إلى طقس تأملي بعيد عن التزمت أو السمع والطاعة ، طقس يتشارك فيه الجميع دون استثناء .. طقس يجمع جماليات الحياة من موسيقا وشعر ورقص وامتثال خالص للروح أثناء شفافيتها للخالق .. طقس يدرب نوازع الإنسان الطبيعية على إدراك العالم ، طقس لا يقهر النفس .. بل يفسح لها المجال للتعبير عن تواصلها مع الخالق برحابة جمعية تأملية . فالصوفي مع حالة الجذب يسكن الله في قلبه .
في إحدى زياراتي لتركيا كان لابد لي من المرور على بعض مراقد هؤلاء الشيوخ الكبار الذين أثروا بكتاباتهم وأعمالهم لاتجاه ديني متسامح ، ومسار اجتماعي تعاوني بين فقراء ومعوزي زمانهم ، بالكلمة الطيبة والتوزيع العادل للأرزاق . فعلى سبيل المثال لا الحصر قدمت الطريقة المولوية وظيفة اجتماعية جوهرية منذ نشأتها في القرن الرابع عشر حتى بدايات القرن العشرين ؛ إذ لم يحظَ أي بلد إسلامي على على نظام ضمان اجتماعي ، بل إن طرق الدراويش ( المتصوفة) حلّت محل الدولة بمنح الضمان الاجتماعي إلى حد كبير للكثير من الفقراء ، والمرضى والعاطلين عن العمل ، ومن ميزات صوامع الدراويش أنها تحتوي على مطابخ وقاعات طعام ، كذلك تخدم المسافرين ، وأخذت الطريقة المولوية تنشط وسط الطبقات المتعلمة المتوسطة والعليا محدثة شبكة على مبدأ ” العاطي الوهّاب ” . وهناك طريقة الدراويش البكتاشيين التي ينتمي أعضاؤها من طبقات الحرفيين والفلاحين والبدو . إلا أن بعض دراويش تلك الطريقة ورطوا أنفسهم بالسياسة المُمالئة لإغراءات السلاطين ؛ فأصبحوا القادة الأساسيين للإنكشارية ، المؤسسة العسكرية المرعبة للنخب العثمانية ، وفيما بعد بالطبع أساء هؤلاء الجنود استعمال سلطتهم بتكديس الأموال والحصول على المزايا الاجتماعية الكبيرة .
وصلت طرق الدراويش الصوفية إلى الأناضول في القرن الثاني عشر ، بعد ان غزا العرق التركي ” المتمثل بالسلاجقة ” الإقليم وجعل من مدينة (قونية ) عاصمته .
في القرن الثالث عشر أصبحت قونية عاصمة السلاجقة ، المركز الروحي للطائفة المولوية المعروفة على نطاق واسع تحت اسم ( الدراويش الدوارين ) أبوهم الروحي جلال الدين الرومي ، ولقبه الشرفي ” مولانا ” ولد عام 1207 وتوفي بمدينة قونية عام 1273 . ولقد أضفت العامة على حادثة وفاته القصص الغرائبية ، كما فعل مُريده وتلميذه حسام جلبي ؛ الذي كتب الأشعار والأدعية بانتظار عودته .. فقد وضعه بمرتبة الواقف بين الحضور والغياب ، افتقاداً له .. وتعلقاً بشخصه وتعاليمه . 
دخلنا مدينة قونية .. بغيتنا زيارة ضريح جلال الدين الرومي وشقيق روحه و مُريده وحافظ تراثه الروحي حسام الدين جلبي أحد مؤسسي الطريقة المولوية الصوفية . اجتزنا سوق السلع القديمة الضاج بصيحات الباعة ، حتى وصلنا إلى ضريح الشيخين .. خلف الحائط الحجري رأينا ساحة كبيرة تتوسطها بركة على جانبيها تتراقص المياه من ينابيع مرمرية .. حيث بدأ الدراويش يلجون إليها ، بقلنسواتهم الكستنائية اللون ، وأجسادهم المثنية في معاطف بيضاء ، ثم تربع شيخهم باسطاً جلد خروف تحت القباب الرصاصية ، والدراويش من حوله يتلون الأدعية .. وبدأ صوت الناي يتسلل إلى مسامعهم وكأنه ينتحب على غياب الشيخين الجليلين ..
أسمع شكوى الناي الطويلة
دوماً ينتحب على الهجران.
من ،إذاً ، فصل روحك عن الحقيقة ؟
تنتظر لحظة الاتحاد .
خلع الدراوش معاطفهم وتجهزوا للرقص ، ثيابهم ذات الأكمام الطويلة والرقبة المفتوحة على الصدر والقمصان الفضفاضة ، يدورون بسرعة على انغام الناي والطبلة والربابة ، يتوسط شيخهم دائرتهم على جلد الخروف مستغرقاً في عالم التامل وكأنه قوس قزح سقط من السماء تواً على الأرض ، بينما الدراويش يدورون حول أنفسهم حسب قائدهم ؛ الأيدي اليسرى نحو الأرض ، والأيدي اليمنى نحو السماء ، والرؤوس مائلة إلى ناحية ، يهمسون باسماء الله الحسنى على التوالي وعند ذكر كل صفة لجلاله ، يضربون الأرض بكعوبهم .. يدور الدراويش إحياءً لذكرى مؤسسي المولوية ” سلطان ولد ” باعث الرقصة الطقسية ، ومؤلف الحكايات الأسطورية حسام الدين جلبي مدون كتاب ” المثنوي ” عن لسان مولاه جلال الدين الرومي .. يدورون مثل دوامات تحت قباب ضريح مولاهم جلال الدين مرددين كلماته وأشعاره .. يعيدون تلك الرقصة التي أداها مولاهم لأول مرّة في سوق الصاغة حين طلب من أحد مريديه الصياغ انتاج خيوط من ذهب لاستخدامها في تزيين أو كتابة الحروف .. ظل يرقص يومها في العتمة على صوت نقر صفائح الذهب لتصبح خيوط من نور .. هكذا يتداول العامة تلك الحكايات ويضفون عليها من خيالهم الحر وتأملاتهم التي بلا حدود . وهكذا تأرجح جلال الدين الرومي وهو ينشد:
شمس ، كالهلال والبدر ،
تعالي ، بلا جناحين ولا ذراعين ،
وعاودي مسيرتكِ الكونية .
بعد الغزو المغولي لقونية عام 1249 نشأت رقصة ( السيما ) ، أمام ورشة الصائغ الباقية إلي يومنا هذا .. تلك الرقصة الطقسية والتي في كل دورة منها يبتعد الدوارين الدراويش عن الأرض رويداً رويداً يتقربون من ” الواحد ” بينما تسيل الشموع الذائبة في الشمعدان الكبير كما يذوب الدراويش في حالة الجذب بعيداً عن الحُجب والحواجز مستعيرين كلمات مولاهم جلال الدين الرومي :
إنهم في الشوك ، لكنّهم الوردة 
إنهم محبوسون ، لكنّهم الخمر 
إنهم في الوحل ، لكنّهم القلب
إنهم في الليل ، و لكنّهم الصباح .
وقفنا عند السور بعد خروج الدوارين إلى مزرعة الورد المجاورة ، هكذا أقف مثل مشدوهة ، أعيد تلذذي بما شاهدت وسمعت واستمتعت ؛ لكن دون أن أغفل مشاهدة الضريح ..! لكن أين الضريح ؟ مريدوا الشيخ يعتقدون أن مولاهم قد يظهر في أي لحظة .. بوجهه النضر وقلنسوته البيضاء المصنوعة من اللباد ، أمام السور الساحة فارغة إلا من نور القمر ، وخلف السور لا أحد .. لاشيء .. فقط أساطير شمس تبريز مولانا جلال الدين الرومي الملقب أيضاً ب ( شمس الطائر ) . 

* قاصة من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *