القمقم وبساط الريح


في «ألف ليلة وليلة» طرائق عدة لتخطي المحلية ودخول بلدان جديدة: إما الخروج من القمقم، أو يكون عندك ما كان عند الملك سليمان، نقصد بساط الريح. وهناك طرق أخرى، فالسندباد تعلق بالنسر وعرف جزراً جديدة، الخ.. بيد أن كل هذه الطرائق غامضة ولا يمكن تفسيرها إلا بالقوة السحرية. ولو انتقلنا من «ألف ليلة وليلة» إلى الواقع، لألفينا أشياء لا تفسر إلا بكلمة «معجزة» أي… عدنا إلى السحر من جديد. فنحن نقول عندما نشاهد عملاً يستعصي على التقليد إنه «سرّ الصنعة» وهو اصطلاح دبلوماسي للإقرار بعدم وجود تفسير، أي نستحي أن نقول «معجزة» أو «سحراً»، فنلجأ إلى مصطلح نوهم أنفسنا بواقعيته، وليس بذلك.

السحر تعرفه كل الشعوب، فالعرب كانوا يعزون إلى الجن كل عمل خارق، والكاتب اليوناني، وبخاصة يوريبيدس، يلجأ في المسرح إلى إنزال الإله في آلة عندما يصل إلى عقدة لا حلّ لها.
على أن السحر في الأدب، وهو سرّ صنعة الأديب، صار في الدراسات الأدبية أداة بيد الناقد لممارسة التفسير، وأيّ غرابة إن كان التفسير فكّاً لشفرة التأثير! فها هو هيغل يشرح التأثير اليوناني بـ«المعجزة اليونانية» وحاول تلميذه ماركس أن يتشعّب أكثر فزعم أن اليونان يمثلون طفولة البشرية، فنحن نعجب بهم، لأننا نحنّ دائماً إلى هذه الطفولة. وهكذا اعتمد هذا الفيلسوف المادي على ما ليس مادياً في تفسير ظاهرة واضحة للعيان، ولكنها مستعصية على التفسير المادي، فهناك عدم تطابق بين الأبنية الفوقية والأبنية التحتية. بعضهم لا يعتبر هذه النوستالجيا كافية لتفسير ظاهرة الأدب اليوناني، لأن هناك فعلاً عملاً معجزاً، بمعنى أنه لم يتكرر في تاريخ العالم – حتى اليوم على الأقل. على أن هناك قانوناً عاماً في التقييم الأدبي هو أنك مضطر إلى التسليم بالإعجاز أمام ظاهرة لا تجد لها مثيلاً، من قبل ومن بعد، أو كما قلنا حتى اليوم على الأقل. تسمي الظاهرة «سر الصنعة»، تسميها «معجزة»، تسميها «سحراً»، تسميها «فناً متفرداً»، تسميها «استثناء القاعدة»… أنت حرّ. بيد أن هذه التسمية ذاتها سوف تلجأ إليها عندما تعجز عن التفسير، لتكون هي التفسير الحالي، ريثما تهتدي، أنت أو غيرك، إلى حلّ هذا اللغز.
ظاهرة عربية
لنأخذ بكلام هيغل القائل إن اليونانيين طرحوا الأسئلة الأساسية، أو لنأخذ بكلام ماركس الذي سعى جاهداً إلى حل لغز تلك المعجزة التي أشار إليها هيغل. إنه لا ينطبق إلا على الأدب اليوناني، وكل آداب أوروبا قائمة على الأدب اليوناني، وهي آداب متأخرة في ولادتها، فبعضها لم يظهر إلا بعد انصرام العصور الوسطى، فالأدب الأسترالي والأدب الكندي والأدب الأميركي من الآداب الحديثة جداً، وكذلك أدب أميركا اللاتينية كله، لا نستثني أدباً من آدابه.
ننتقل بعد ذلك إلى الأدب العربي بعد أن أقررنا أن الأدب اليوناني معجزة، سواء فسرت أم لم تفسر. إنه ظاهرة عربية، لا مثيل لها أيضاً، أشبه بالمعجزة اليونانية، فهو الأدب الوحيد الذي ظهر في الصحراء واستمر كل هذه المدة الطويلة، ليس بفرضه – فلا يمكن فرض الأدب – بل بميزاته، فاستهوى كل الأعراق الأخرى وانتشر انتشاراً واسعاً لم يعرفه أدب آخر. أليست ظاهرة عربية تستحق التأمل؟
لنتريث الآن، ولو بلمحة خاطفة، عند هذه الظاهرة العربية المتفردة. ففي العالم عشرات الصحاري الكبرى: كصحراء وادي الموت وصحراء كولورادو والصحراء الكبرى وصحراء غوبي… أكثر من ثلاثين صحراء كبرى تقريباً، عدا عن الصحاري الصغيرة المنتشرة في كل أنحاء العالم، عدا أوروبا، لكننا لم نسمع أن صحراء، كبيرة كانت أم صغيرة، أنتجت أدباً إلا الصحراء العربية. ونقصد بالأدب، ذلك الأدب المكتمل وليس المقتصر على الفولكلور والرقص والموسيقى، فهذا لا تخلو منه صحراء، ولا أرض جرداء، ولا غيرها، فما دام هناك شعب فلا بد أن يكون له فولكلوره الخاص، بل لاحظنا أنه كلما اقتربنا من الصحاري كثر الفولكلور وتنوع، أكثر من البلاد الجبلية والثلجية، وهكذا يمكن وضع تشخيص للفولكلور أنه يزداد ويغتني كلما انتقلنا من البلدان الثلجية إلى البلدان الحارة والصحراوية، بل إن تقاليد الفودو (أو الهودو) الأفريقي غزا أميركا الجنوبية وهو في طريقه إلى غزو أميركا الشمالية. وهذا ما لا نجده في الجزيرة العربية، بل نجد – طبعاً إلى جانب الفولكلور – أدباً راقياً إلى درجة أن الأجيال التالية اعتبرته نموذجاً أدبياً مثالياً، ولا نعدم أحداً في هذه الأيام يأخذ بهذا الرأي، تماماً كما لا نعدم أحداً في هذه الأيام يرى في الأدب اليوناني القديم نموذجاً أدبياً مثالياً.
هل هناك تفسير لهذه الظاهرة؟
مهما كانت التفسيرات فإن السؤال المباشرة بعد ذلك هو: لماذا لم تنتج أي صحراء أخرى أدباً يشبه الأدب العربي، أو أدباً مكتملاً، وليس أدباً في حالته الأولية لا يخرج عن حدود الغناء والرقص والموسيقى، أي لا يخرج عن حدود الفولكلور؟
اختلفت التفسيرات وتباينت في بعض الأحيان، فمن قائل إن الأدب العربي عندما ظهر من الصحراء إنما قطع شوطاً كبيراً من الحضارة، فهناك ممالك وملوك، وليس فقط قبائل وعشائر… ثم هناك استقلالية تامة، فلم يعرف أن الجزيرة العربية دانت لأحد. ربما تعامل أطرافها مع الأجنبي، أما الوقوع في أسر الأجنبي فلم تعرفه الجزيرة العربية. ومن قائل إن العرق العربي بحكم وجوده في الصحراء اضطر إلى ممارسة التأمل والتفكير، وملء الفراغ الكبير في عصر الرعي بالتهافت على الشعر والأدب. ومن قائل إن الشعر العربي في الجاهلية تعبير عن أديان قديمة كانت الأنثى تلعب فيها الدور الأكبر… الخ… أليس القول إن هناك معجزة أقرب إلى القناعة من هذه التفسيرات؟!
التقارب والمشابهة
إذن هناك شعبان حرّان لم يدينا لأجنبي أنتجا أدباً حقيقياً وهما الإغريق والعرب. وإذا كان الأدب اليوناني – لنفرض – يمثل الطفولة البشرية، فإن الأدب العربي يمثل النضج البشري، فهو لم يسأل عن أصل الأشياء بل عن مفاعيلها، وغنى لغته جعله يرتاد آفاقاً لم يستوحيها من بيئته. وهو شعر متنوّع فيه شيء من سن الشباب وفيه شيء من سن الرشد… ولكن في كل الأحوال هو شعر ناضج جداً وله تقليد عريق – ربما أعرق من أي أدب في العالم – ظل يتمسك به فترة طويلة جداً، ولم يتخل عنه إلا في عهد أطلقوا عليه اسم «الحداثة».
وقد انفرد الأدب اليوناني بموضوعات ميثولوجية راقية جداً، ربما أرقى ما وصلت إليه الميثولوجيا، من دون أن يعني هذا أنه أدب عاش في عالم الخيال، وإنما كانت الميثولوجيا تشخيصاً لواقعهم، فكأنها تشخيص بالرمز لواقع بالعيان. وفي هذه الحالة نسير بعكس اتجاه «المعادل الموضوعي».
وبالمقابل انفرد الأدب العربي بالوقوف على الأطلال، لا يجاريه في ذلك مجار، ولم نسمع أن أدباً في العالم مكث عند الأطلال مثل هذا المكوث، ولا نوّع مثل هذا التنوّع. ونحن نرى في هذا الوقوف على الأطلال فناً وفلسفة وعمقاً دينياً يعود إلى غابر الأزمان. وليس هنا مجال الاستفاضة في هذه الصفات، وإنما نؤكد أننا أمام ظاهرة فريدة من نوعها، وليس تفسيرها سهلاً ويسيراً، كما يتراءى لأول وهلة. وتحل صاحبات الطلل عند العرب محل ربات الفنون عند الإغريق، فكما يعتبر الإغريق ربات الفنون مصدراً للإلهام، كذلك يعتبر العرب ربات الأطلال منبعاً للإلهام. وكما ينطلق الشاعر اليوناني من ربة الفنون إلى غرضه الشعري، كذلك ينطلق الشاعر العربي من ربة الطلل إلى غرضه الشعري، وكما يؤثر الغرض في خطاب ربة الفنون عند الإغريق، كذلك يؤثر الغرض في خطاب ربة الطلل… وليس كما تذهب بعض الدراسات المتسرعة من أن العرب ينسجون على نول واحد. فحتى الشاعر الواحد يختلف خطابه الطللي باختلاف غرضه وباختلاف حالته النفسية.
بالطبع لا يمكن أن نطلب من الشعر العربي أن يحقق القفزة التي حققها الأدب اليوناني، فطبيعة الجزيرة العربية لا تسمح ببناء المسرح وشيوع الشعر الدرامي. ولهذا شحن الأدب اليوناني القديم، بالفن الدرامي من ملاحم وأناشيد وترنيمات وابتهالات كورالية، مما يتلاءم مع الطبيعة اليونانية قبل بناء المسرح.
وإذا كانت بيئة الجزيرة العربية لا تتقارب مع بيئة اليونان فإن هناك الكثير من البلدان التي تتقارب بيئاتها مع البيئة اليونانية، من دون أن يكون لديها أي نوع من الفن الدرامي. ونذهب إلى أبعد من ذلك فنكرر هنا أن جميع الآداب الأوروبية مدينة بوجودها لليونان، وقد ظهرت بعد الأدب اليوناني بعشرات القرون، وهي تعترف أنه لولا الأدب اليوناني لما كانت هي على شيء من الفاعلية والانتشار. أما الأدب العربي فلم يعتمد على الأدب اليوناني ولا على غير الأدب اليوناني، بل تابع مسيرته التاريخية ووصل إلى ما وصل إليه. وحتى الأدب اللاتيني اعتمد هو الآخر على الأدب اليوناني اعتماداً كلياً، حتى أن شاعره الأكبر هوراس يعترف أنهم تلاميذ غير جديرين للأدب اليوناني، ناهيك عن استنساخ الدين اليوناني واعتماده، من دون تغيير سوى إضافة بعض الآلهة الخاصة بالرومان فقط، وهي آلهة محدودة جداً كتيرمينوس وربات الموقد، من غير أن ننفي تفاعل كل آداب العالم، ما تجاور منها وما تباعد.
الإمبريالية بساط الريح
هناك فتحان غيّرا العالم لمصلحة الأدب: فتح الإسكندر وفتح الإسلام. الأول نشر الثقافة الهيلينية، من دون أن يقضي على الأديان القائمة في الشرق، بل بالعكس، فقد جرى اهتمام كبير بها وتقدير لها. والثاني نشر الثقافة الإسلامية ونقل الثقافة الهيلينية إلى أوروبا بعد أن تنكرت لها المسيحية. والإسلام أيضاً لم يقض على الأديان السابقة كما فعلت المسيحية قبله، فقد ظلت كل الأديان قائمة حتى هذه الأيام. ولا شك أن هذه مأثرة إسلامية كبيرة. وبهذا المعنى يمكن القول إن هناك إمبراطوريتين أدبيتين في العالم هما الإمبراطورية اليونانية والإمبراطورية العربية.
صحيح أن هناك علاقة بين الإمبراطورية الأدبية والإمبراطورية السياسية، فلم يسمع أن هناك أدباً تخطى حدود المحلية من دون إمبراطورية سياسية، بشرط أن يكون مؤهلاً ذاتياً، قادراً على جذب الشعوب. لكن ليست كل إمبراطورية سياسية تحمل إمبراطورية أدبية، فهناك الكثير من الإمبراطوريات السياسية قامت وهيمنت وحكمت ثم زالت وانتهت من دون أن تترك خلفها شيئاً كالإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية المغولية والإمبراطورية العثمانية.
إمبراطوريتا الأدب في القديم هما الإمبراطورية اليونانية التي أخرجها الإسكندر من القمقم، والإمبراطورية العربية التي أركبها الإسلام بساط الريح. وصادف أن الإمبراطوريتين تعرضتا لغزو الإمبراطورية الفارسية، من دون أن تنجح هذه الأخيرة في إخضاعهما، فظل الشعبان سيدين حرّين مستقلين. إمبراطورية اليونان تركت خلفها آثاراً نبيلة من مدن وكتب وثقافة، والإمبراطورية العربية تركت وراءها آثاراً نبيلة من مدن وكتب وثقافة، بينما لم تترك الإمبراطورية الفارسية خلفها أي أثر نبيل. ولا نظن أن هناك غير هاتين الإمبراطوريتين في العالمين القديم والوسيط.
أما في العصر الحديث فلم يظهر سوى إمبراطوريتين أدبيتين: الإنكليزية بعد اكتشاف أميركا الشمالية، واللاتينية بعد اكتشاف أميركا الجنوبية. الأولى هي الأكبر على نطاق القارات، ولها تأثير عالمي كبير، والثانية محصورة في أميركا الجنوبية، ومعها أسبانيا… لكنّ لهما تفسيراً آخر، لا يعتمد على المعجزة، لا من قريب ولا من بعيد.
عن «الليالي»
جُمِعت قصص «ألف ليلة وليلة» وتُرجمت إلى العربية خلال العصر الذهبي للإسلام. تعود الحكايات إلى القرون القديمة والوسطى لكل من الحضارات العربية والفارسية والهندية والمصرية وبلاد الرافدين. معظم الحكايات كانت في الأساس قصصاً شعبية من عهد الخلافة، والبعض الآخر، وخاصة قصة الإطار، فعلى الأرجح تم استخلاصها من العمل البهلوي الفارسي «ألف خرافة» والتي بدورها اعتمدت جزئياً على الأدب الهندي.
تنطلق كل قصص الليالي من الملك شهريار وزوجته شهرزاد، وبعض القصص مؤطرة داخل حكايات أخرى، في حين تبدأ أخرى وتنتهي من تلقاء نفسها. بعض النُّسخ المطبوعة لا تحتوي سوى على بضع مئات من الليالي، والبعض الآخر يتضمن ألف ليلة وليلة أو أكثر. الجزء الأكبر من النص هو بأسلوب النثر، على الرغم من استخدام أسلوب الشعر أحياناً، وأحياناً تستخدم الأغاني والألغاز. معظم القصائد هي مقاطع مفردة أو رباعيّة، كما أن بعضها يكون أطول من ذلك.
هناك بعض القصص المشهورة التي تحتويها ألف ليلة وليلة، مثل «علاء الدين والمصباح السحري»، «علي بابا والأربعون لصاً»، و«رحلات السندباد البحري السبع»، كما أن هناك بعض الحكايات الشعبية في منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر شبه مؤكدة تقريباً، وليست جزءاً من ألف ليلة وليلة الموجودة في الإصدارات العربية، ولكنها أضيفت من قبل المستشرق الفرنسي أنطوان غالان ومترجمين أوروبيين آخرين.
________
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *