صورة مع البلاد


*إبراهيم جابر إبراهيم


ذهبتُ الى فلسطين؛ وكان ذلك عاديّاً وسهلاً.
مجرد ساعة بالسيارة من عمّان، وكنتُ أدخلُ في بلادٍ عجيبةٍ لا تشبه ما رسمه الرسّامون دائماً لنا، ليست أجمل من أي مكان، ولكنها أيضاً ليست جاهزةً تماماً لحمل صفة “المكان”. 
هي فكرتنا عنها؛ أكثر مما هي ما أراه؛ وهنا الفخُّ الذي لا يمكن النجاة منه.
كيف يمكن الوقوف بتجرّد أمام أغنيةٍ تتحول الى بيت اسمنتي، أو شجرة خضراء في النشيد تصير شجرة مثمرة تشتغلُ بمثابرة لإرضاء تجار الفاكهة، وحسب!
أن تقف أمام حلمك القديم، الذي كان شاهقاً وقصيّاً، هكذا مرةً واحدة، ووجهاً لوجه.
وهو ينظر لك ببساطةِ من لم يفعل شيئاً، وكأنه ليس هو من كان يجلدُ ظهركَ بقسوة طيلة خمسين عاماً، فيمدُّ يده الآن للسلام دون أن يرى القروح التي على يدك.
هي هذه إذن؟ فلسطين؟
نعم؛ هي هذه!
ومن يقنعني أنها هي هذه!
فهذه مجرد بلاد؛ وأنا قيل لي إنها ملوّنةٌ وتصدح كل الوقت بالأجراس، وإنَّ لها ظفيرة طويلة يتسلَّقها الرجال في الليل الى جنّة الله، اسمع سأقول لك: أنا كنتُ أحمل لها صورة في جيبي، رسمتها أنا وأولاد حارتنا الأطفال، في وقتٍ سحيق، أن أدخل الى شارع طويل، فيه رجال كثيرون، كثيرون جداً لا ينتهون؛ يلبسون حريراً ملوّناً، وصافي اللون، ويغنّون، بلحنٍ واحدٍ، فيما نساء كثيرات، كثيرات جداً لا ينتهين، يلبسن حريراً ملوَّناً، وصافي اللون، ويرقصن، وأنَّ شتاء كثيراً ينزل فوق الناس، مثل الفرَاش، وحين يجيء الليل ينامون واقفين ومبلَّلين، فيما تقف غزلان كثيرةٌ، كثيرةٌ لا تنتهي، رشيقةٌ ولَعوب، على أطراف الطريق تتلفَّتُ حوالَيها، وأن الطريق تحتها مرسومٌ بألوانٍ مائية.
أمّا الآن، حين قطعتُ النهر، ومددتُ يدي لأنزع الـ”كاف” الملتصقة بظهري، كاف الـ”هناك”، لأصير “هنا”، ثمة دوخةٌ ليست خفيفة أصابتني، مثل من يخضعُ لعملية جراحيةٍ بدون تخدير، وشعرتُ لدقائق كمَن وقع عن تلةٍ عالية، حين رأيتُ الناس هناك، ورأيتُ التراب، وضحكتُ من نفسي كثيراً حين نزل الشتاء وكنتُ أدخل لمكان نظيف فمسحتُ الطين عن حذائي على طرف الرصيف، ضحكتُ مصدوماً ولم أعرف كيف أتصرف حين تذكرتُ أن هذا الطين هو تراب فلسطين!! التراب الذي كنت تتوسَّل المسافرين حفنةً منه قبل ذلك. عليكَ إذن أن تحضِّر نفسك لمفاجآت أخرى كثيرة، قلتُ لحالي. وفي بيت صديقي كان التفّاح على الطاولة عادياً، والبرتقال أيضاً، لا يشبه الشِعرَ الذي انكتبَ فيه لخمسين سنة، والنافذة (لديهم نوافذ في البيوت مثلنا) تطلُّ على الناس، والناس كانوا يمشون في الشوارع كما يمشي الناس في الشوارع في أيّ (هنا) آخر في العالَم!
فكرتُّ في الليل حين اختليتُ بنفسي ولم يكن يسمعني أحد: أليس من الممكن أن يكونوا قد لفّقوا لي بلادا أخرى وأخذوني اليها؟ ليس ثمة ما يثبت أن هذه بلادي. قضيتُ الليلة الأولى أُخرجُ الصورة من جيبي كلّ ساعة لأنظرُ فيها، ثم أنظرُ من الشبّاك.
في الصباح الباكر مزّقتُ الصورة بلا تردد، والتقطتُ صورةً جديدةً للبلاد وأنا أقفُ بجانبها، بلادي العادية جداً وأحبُّها.
________
*الغد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *