سينما الأخلاق الحميدة..


*محمد شعير

«لو أبصرت في طريقك اثنين يتبادلان قبلة فماذا تفعل؟ وماذا يكون شعورك؟»

سأل الصحافي في مجلة «الكواكب» مدير جهاز الرقابة في عام 1959.. وأجاب: «أمشي في حالي، وأضحك في سري وأقول عقبالي». مدير جهاز الرقابة آنذاك هو نجيب محفوظ، الحوار يأتي في إطار سلسلة صحافية عن «القبلة». كان محفوظ وقتها يعيش في أسطورة الكاتب الأعزب، الذي لم يتزوج حتى الآن، مهمته كرئيس لجهاز الرقابة الحفاظ على أخلاق المجتمع، لذا كان أكثر المتحاورين في سلسلة الحوارت تحفظا.. وأيضا «خجلا»!
قال محفوظ إن القبلة هي «شذى وردة الحب»، ضرورة لا يمكن تصور الحب بدونها.. وقال أيضا إن أحلى قبلة في فيلم «لفاتن حمامة وأحمد مظهر في دعاء الكروان».. وعندما يسأله الصحافي: هل تختلف القبلات باختلاف جنسية الأفلام؟ يجيب محفوظ: «أستطيع أن أرتب لك الأفلام حسب إثارة القبلة، الفيلم الفرنسي أكثر إثارة، ثم الفيلم الإيطالي، ثم الأميركي، ثم الفيلم الإنكليزي، ثم الروسي، وأخيرا العربي».. يضحك محفوظ: «بعض أفلامنا تحاول تقليد الفيلم الفرنسي أحيانا وعندئذ يتدخل مقصنا». ويمضي الحوار على هذا المنوال.. يتحدث محفوظ عن القبلات المسموح بها: «التي تعبر عن الحب، أو نداء الجسد ولكن تلك الأخيرة يكتفى فيها بأقل جزء ممكن يكفي للتعبير عن الموقف المطلوب»..!
استمرت سلسلة الحوارات، تحدث نجوم ومخرجون وكتاب سيناريو.. عن مفهومهم للقبلة، لم يخجل أحد وخصوصا الفنانات عن الاعتراف بأن القبلات على الشاشة كثيرا ما تكون حقيقية، ولكن بلا عواطف ولكنها جزء من بنية الفيلم.. ولكن جرت مياه كثيرة في النهر، سافر المصريون في سبعينيات القرن الماضي إلى مدن الملح بحثا عن باب رزق، وعادوا محملين بقيم هذه المدن، وأفكارها.. حتى وصلنا إلى نهاية الثمانينيات، عنــدما ظهر نجوم الساحة الجدد، أبناء الطبــقة الوسطى، حاملين معها مفاهيمها الأخلاقيــة حول الفــن والأخلاق.. ربما بحثا عن جماهيرية «عائلية»، أو عرض في تلك البلاد التي لا تسمح بمشاهدة مشاهد القبلات إلا سرا، ويظهر مصطلح السينما النظيفة!
سينما نظيفة
المصطلح بدأ في الظهور في منتصف تسعينيات القرن الماضي، مع موجة ما عرف باسم «المضحكون الجدد».. وهي مدرسة كوميدية تقوم على انتزاع الضحكات بسبب التشوهات الجسدية للأبطال.. قصر قامة محمد هنيدي، وضخامة علاء ولي الدين.. أي خلو أبطال هذه الأفلام من مواصفات البطل الوسيم القادر على الإضحاك بدون تلك التشوهات (فؤاد المهندس مثلا)، أو البطل الخارق (عادل إمام).. لم يكن مقنعا بالأساس أن تحب بطلات الأفلام الكوميدنات الجدد، ويتبادلون القبلات على الشاشة، فبدا الحديث عن «سينما نظيفة».. لاقى المصطلح هوى لدى المنتجين لمحاولة كسب كل أفراد العائلة لمشاهدة أفلامهم، أي لأسباب تجارية بحتة أولا، أو نفاق التيارات الدينية والشعبية بمصطلحات السينما النظيفة وغيرها.. المفارقة المدهشة في زمن السينما النظيفة، التي يتجاهلها الكثيرون أن أول فيلم مصري حسب الكثير من الموسوعات السينمائية هو «قبلة في الصحراء» (1927) وليس فيلم «ليلى»، كما يرى البعض، الفيلم لبدر لاما الذي كان عائدا من تشيلي متوجها إلى فلسطين، وعندما وصل الى الاسكندرية أعجب بالمدينة وقرر الإقامة بها، والعمل وتصوير الفيلم الذي يدور حول «هيلدا (إيفون جوين) الفتاة الأجنبية التي تعجب بشفيق الشاب الإعرابي الذي يقيم في قرية بصحراء مصر لما أظهره من حسن الخلق، يحدث أن يتهم أهل القرية شفيق بقتل عمه «عبد القادر»؛ الأمر الذي يستدعي هروبه إلى الصحراء مع مجموعة رجال العصابات ويصبح واحدًا منهم، ويصادف أثناء هجوم العصابة على إحدى القوافل، ان تكون «هيلدا» ضمن المتعرضين للهجوم، يحاول «شفيق» كف أذى العصابة عنها، لكن يقوم ثلاثة من أفراد العصابة بخطف هيلدا ويتمكن شفيق من إنقاذها ليفوز بها حبيبة وزوجة، ينقل السيد محمود نبأ براءته من قتل عمه.. وقصة الفيلم كما يبدو متأثرة بمغامرات بطل هوليوود الشهير رودولف فالنتينو.
وفي ما بعد عندما تحولت رواية «زينب» لمحدد حسين هيكل إلى فيلم عام 1930، كان مشهد القبلة المخطوفة تحت السلم بين بطلة الفيلم راقية إبراهيم وحسين صدقي. لم يثر المشهد أيه مشكلات، كما فعلت الرواية المكتوبة التي صدرت عام 1914 واعترض عليها بعض رجال الأزهر باعتبار أن كتابة الرواية فيها تجسيد وخلق لا يجوز سوى للإله. حسين صدقي بطل الفيلم رفض في ما بعد مشاهد القبلات إذ رفض تقبيل مديحة يسري، في فيلم «المصري أفندي»، خاصة انه تم تصوير أجزاء منه خلال شهر رمضان، وحينما جاء المخرج عاطف سالم لشرح طبيعة المشهد المقبل وكيف أنه سيحتوي على «بوسة»، رفض «صدقي» بشدة وفشلت كل محاولات المخرج لإقناعه بأنها «قبلة هادفة»، فتعطل التصوير لبضع ساعات. وبسبب شهر رمضان أيضا رفض كمال الشناوي تقبيل الفنانة كاميليا ضمن أحداث فيلم «شارع البهلوان».
أنا صايم
قال الشناوي «أنا صايم مش ممكن أبوس كاميليا»، وحاول وقتها صلاح أبو سيف إقناعه بأن القبلة ليست حراماً، وعندما اقتنع كمال بوجهة نظر أبو سيف، كانت كاميليا قد سمعت برفض الشناوي ولكن من دون أن تعرف السبب الحقيقي، فثارت قائلة «هو بيقول لا ليه.. هو يطول»، فأخبرها المخرج بأن الصيام هو السبب وراء رفضه وليس شيئاً آخر، ولكنها لم تقتنع وقالت «أنا كمان عندي كرامة.. ومش هخليه يبوسني»، وحاول أبو سيف تهدئتها حتى اقتنعت. وكانت القبلة، التي تسببت في كل هذا، من أحسن القبلات التي أخرجها صلاح أبو سيف، كما يذكر هو، فقد كانت قوية وعنيفة، حتى انها عندما عرضت على الرقيب مد يده إلى مقصه وحذفها نهائياً من الفيلم. وربما كانت أشهر القبلات في السينما المصرية مشهد عمر الشريف مع فاتن حمامة في فيلم «صراع في الوادي»، كانت فاتن زوجة مخرج الفيلم عز الدين ذو الفقار، لكن سيناريو الفيلم كان يحتوي على قبلة بين البطلين، ووسط دهشة الجميع، وافقت فاتن على مشهد القبلة الذي جمعها بعمر الشريف، بعدما سقط مضرجاً بدمائه بعد أن تلقى رصاصة، حيث لم تنتبه الفنانة فاتن حمامة الى ان المشهد قد انتهى وظلت غائبة في تلك القبلة، التي كلفتها طلاقها من زوجها المخرج محمود ذو الفقار.
لم تتوقف قبلات الأفلام في عهد الرئيس المؤمن، رغم ظواهر الإيمان المجتمعية، وهجرات المصريين إلى بلاد النفط، وكذلك قاوم السينمائيون في الثمانينيات.. حتى منتصف التسعينيات، حتى مع محاولات تحجيب الفنانات وإغرائهن بالأموال، كانت المقاومة، من أجل الفن، لكن لم يحتاجوا إلى رقابة تحدد لهم ما يريدون منهم، فقد تطوعوا بأنفسهم من أجل سينما الأخلاق الحميدة، غير مدركين لمفهوم الفن أو دوره.. الآن لا أحد يعرف ما الذي يمكن أن تكون عليه السينما في الأيام المقبلة.. ولكن سينما بلا قبلات ليست سينما!
_______
*السفير

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *