أمل بنويس
( ثقافات )
لم تعد جماليات المسرح اليوم تعتمد مبدأ المحاكاة، بعد أن أعلن بودريار Baudrillard عن موت الواقع Le réel وأفوله لصالح مبدأ الافتراض Le virtuel. تقوم فنون الأداء اليوم بالانغماس الكلي في وسائط الاتصال، بحيث تفرز نماذج إبداعية دون أصل ناظم لها (دون مرجعية واقعية). تلك هي تجارب ما بعد الدراما والمسرح اليوم، كما تجسدها أعمال: وجدي معوض Wajdi Mouawad، وروبرت لوباج Robert Lepage، وكاستيلوتشي Castellucci، وجان فابرJean Fabre، وربيع مروة ولينا صانع، وكل ما يقدم بمهرجانات: العبر أمريكي Transamériques، وخريف باريس، وخريف مدريد، ومهرجان طوكيو، وغيرها من المواعيد السنوية، التي صارت تصدم المتفرج بأشكال راديكالية من العروض التفاعلية، المقوضة لحضور النص والممثل، لصالح استخدام مفرط للصور والفيديو والكرافيزم وتقنيات ثلاثية ورباعية الأبعاد.
لقد ولجت الجماليات المسرحية مع بداية الألفية الثالثة، منعطفا جديدا طوح بكل سمات المسرح التقليدية تلك التي ترسخت طيلة قرون. لقد تلاشت الحدود بين مختلف أشكال الفن المعاصر: (فن الأداء Performance/ التجهيز Installation/ فن الفيديو Art-Vidéo/ فن الحياةBio-Art/ فن النت Art-Net/ فن الجسد Body-art/ فن الأرض Land-A..)، وهذا نتاج طبعي لتحول المجتمعات الراهنة من حقبة ما بعد الحداثة (النصف الثاني من القرن المنصرم) نحو مرحلة جديدة، يصطلح عليها راهنا بفترة “مابعد الحداثة المفرطة” أو “الحداثة الديجيتالية “.
تحول جذري مس مختلف جوانب الحياة، ذلك حال المجتمعات ما بعد الصناعية اليوم، التي تعيش نمطا سريعا تحتل فيه الأجهزة الذكية وشبكة الانترنت والوسائط الرقمية أولوية قصوى، حتى أصبح من الصعب التخلي عنها أو تجاهلها بعد أن أقحمت الإنسان في أشكال جديدة من التلقي والاستهلاك، وأصبحت مظهرا ملازما له -فردا كان أو جماعة- و نمط عيش له مقوماته وسماته الخاصة.
الفنون الأدبية والمشهدية –بدورها- أصبحت تنطوي على سمات ومكونات مناقضة تماما للجماليات التي تأسست عليها ، منتصرة لمبدإ الافتراض خصوصا بظهور وتطور أشكال فنية معولمة من الأداء والكتابة والفن (العروض التفاعلية المتطورة/ عروضD3 /المدونات الرقمية / الأدب الرقمي ..) وانتفت الحدود تماما بين الفنون المتعددة في أشكالها وممارساتها؛
ثورة انقلابية خاضها الفن المسرحي مطلع القرن العشرين بانفتاحه على اتجاهات الفن الحديث من تشكيل، وموسيقى، ومعمار وأداء ورقص،.. وهو اليوم يشهد منعطفا جديدا نحو التفاعلية والوسائط، مستفيدا من تقنيات الصورة والفيديو والمونتاج وإمكانات الحواسب والبرمجيات ومتعددي الوسائط…. تقنيات مكنت من ظهور أعمال فنية ذات جودة عالية اكتسحت مسارح العالم باعتداد،مخلفة دهشة وانبهارا لدى مشاهديها، أعمال وإن كانت تستعصي على التصنيف والمقاربة إلا أنها حتما تعكس نمط الحياة المعاصرة وتحولات أشكالها الإبداعية.
– فأين نحن من هذه التحولات الجذرية الجديدة ؟
– ثم، هل المبدع العربي مؤهل لخوض التجربة الوسائطية ؟
– وماذا نقصد بالوسائطية تحديدا؟
تنحدر كلمة وسيط أو média في اللغة الأجنبية من الأصل اللاتيني medium، وهي تعني: وسيلة لعرض المعلومات تستعمل من أجل التوصيل (كالصحافة والراديو والتلفاز( وبالتالي تندرج ضمنها كل وسائل الإعلام والاتصال السمعية والبصرية؛ أما كلمة intermédialité أو وسائطية فقد تمت استعارتها من مجال الأدب وتحديدا من مفهوم intertextualité أو “تداخل النصوص”، ظهر هذا المفهوم بداية السبعينات عند جوليا كريستفا في كتابها “ثورة اللغة الشعرية”1 الذي نشرته سنة 1974. وهو المفهوم الذي سيعنى فيما بعد بوصف الآليات المسؤولة عن إنتاج المعنى في النص الأدبي وبكشف مختلف العلاقات المتواجدة بين نصين أو أكثر؛ في حين وضعت كلمة وسائطية intermédialité للدلالة على تقاطع الوسائط والقنوات المختلفة وتفاعلها.
يعرف جورجن مولر Jurgen Ernst Müller ، الوسائطية بالعمليات المسؤولة عن إنتاج المعنى والمرتبطة بتفاعلات الوسائط.”2 أي أنها تشكل تقاطع وتفاعل عدة أنظمة معلوماتية ودوائر تواصلية مع امكانية احتضان واستيعاب بعضها البعض، فالحديث عن الوسائطية هو حديث عن وسيطين مختلفين على الأقل، أحدهما يكون باتا والآخر مستقبلا (مثل التأليف بين النص والصورة، الأوبيرا ومتعدد الوسائط، الإنارة السينمائية في المسرح). لقد ارتبطت الوسائطية بالتكنولوجيات الرقمية 3 وتطور أساليبها وطرئقها المحكمة بما يتيح استعمالا ناجعا لتقنيات إلكترونية رقمية في شكلها المفرد أو المركب كمتعدد الوسائط4.
لقد فتحت الرقمنة أو التقنية الرقمية آفاقا واسعة أمام الإنسان المعاصر، إذ وفرت له أجهزة متطورة وعالية الجودة: مثل أجهزة الهواتف الذكية والشاشات الرقمية واللوحات الإلكترونية وآلات التصوير والتسجيل المتطورة وغيرها من أغراض الاستعمال اليومية. وعن فعل الرقمنة يقول الباحث الأمريكي نيكولا نيغربنت في كتابه “الإنسان الرقمي”: يمكن اعتبار الرقمنة فعلا شموليا ارتبط بالمجتمع الحديث. إذ بدأت موجاته تتجلى في كل مناحي الحياة تقريبا. وذلك في إطار رهان البشرية على التواصل و المراقبة … فعمت الرقمنة مجالات العلوم والفكر، إلى درجة أصبحنا نتحدث فيها عن الإنسان الرقمي ” باعتبار أن الإعلاميات نمط عيش”5
أما المسرح فقد استفاد من هذه التقنيات وسخرها في تحسين ظروف العرض والتلقي بدأ بما يتصل بالصوت والصورة، وصولا إلا آليات الإسقاط الضوئي وما يتصل بها من عمليات معقدة تستلزم اليوم استخدام طارحات ضوء (حوامل أو شاشات عرض أو سيكلوراما أو بانوراما أو أية عناصر تسمح بانعكاس الضوء) والآليات متطورة تهدف إلى إخراج العرض المسرحي في صورة محكمة ومضبوطة.6
• أية وظيفة للوسائط التفاعلية في المسرح اليوم ؟
إن المتتبع للمشهد المسرحي العالمي، يدرك مدى التحول التقني الذي أصبح يسم معظم العروض الفنية، ويقف على أهمية التطبيقات الديجيتالية في توضيب العرض وتأليف عناصره. لم يكن أمام المبدعين -في زمن التفاعل- سوى الاستفادة من الفنون المجاورة والنهم من مستجدات العلم والتكنولوجيا والوسائط، والرهان على الجودة العالية التي تكفل للمسرح مكانة لائقة بين الفنون المشهدية الأخرى من عروض البرفورمونس والسينما والواقع الافتراضي، تفاديا للجمود وسط عالم متحول وسريع سمته الأساس: الاستهلاك.
إن توظيف الكمبيوتر وما يتصل به من برامج وإعدادات، قد أتاح إمكانية البرمجة وتحسين المشهدية البصرية، كما سمح بتأسيس علاقات جديدة بين الصالة والركح، وإقحام المتلقي وتعميق دوره في العمل الإبداعي، وهذا التحول راجع لعدة عوامل نذكر منها:
– تزايد وعي الممارسين بما هو جمالي في المسرح، ورهانهم على إنتاج لغات جديدة ..
– الانفتاح على التكنولوجيات والرقميات الحديثة واكتشاف آفاق جديدة في مجال السينوغرافيا والديكور والمعمار والمؤثرات البصرية والسمعية.
– التأثر بفنون السينما والفيديو.. والتفاعل مع آليات تجزيء بنيات الفضاء والمكان، والإسقاطات الضوئية وتغيير الديكور.
وقد سجل خلال العقدين الأخيرين، انفتاح مهم للمبدعين العرب على الوسائط الحديثة، حضور ملفت لتقنيات الصورة وآليات السينوغرافيا والمونتاج السينمائي وتقنيات التركيب والتسجيل السمعية والمرئية، مع إحراز تطور ملحوظ على مستوى تنفيذ مراحل العرض المسرحي. لقد أصبح بإمكان المخرج أو السينوغراف أن يبرمج ويجرب مشاهد عرضه المسرحي من بدايته إلى نهايته وينظم عناصره المرئية والصوتية بشكل قبلي، (كإمكانيات تغيير المناظر و تنويع أشكال الإنارة والتحكم في المؤثرات وشكل الخلفيات والديكور..) بما يساهم في تحسين ظروف التلقي وجودته، وكذا تفجير إمكانات الوسائط التفاعلية المختلفة في خلق أشكال جديدة تساير أنماط التلقي المعاصرة.
هوامش:
Julia Kristeva ; « La révolution du langage poétique », éditions de seuil, 1974.
2-cité par Denis Belle Mare « Cinéma et intermédialité », Protée, vol :28, n° 3, hiver 2000, page :85.
3. تعني كلمة تكنولوجيا “technologie” في معجم اللغة الفرنسية: مجموع المعارف و الممارسات التي تخص تقنية صناعية كالتكنولوجيا الرقمية، لقد ارتبط ظهور هذا المفهوم بتطور الصناعات والعلوم وتزايد اهتمام الانسان بتحسين مردوديات الإنتاج وظروف الحياة. أما مفهوم الرقمية أو الرقمنةla numérisation فقد ارتبط ظهوره بأجهزة الحواسيب وتطور البرمجيات، إنه عملية تتمثل في تحويل كل المعلومات إلى رموز عددية، على شكل متتاليات رقمية )تقوم على أساس نظمة العد الثنائية /نظام 0-1( مما يسهل حفظ هذه المعلومات و العودة إليها و معالجتها في أي وقت من الأوقات. التكنولوجيات الرقمية إذن هي تلك الأساليب والطرق المحكمة والمضبوطة، التي تتيح استعمالا ناجعا لتقنيات وتطبيقات إليكترونية رقمية في شكلها المفرد أو المركب. ونذكر على سبيل المثال بعض الأجهزة التي صاحبت ظهور الحواسيب: الأقراص الصلبة أو ما يعرف ب disques durs؛ و الاقراص المدمجةCD-ROM الخاصة بتخزين المعلومات؛ ثم أجهزة مشغل الأقراص CD-ROM DRIVE أو ناسخ الأقراص CD-RW وغيرها من الحوامل…)
4. متعدد الوسائط هو وسيلة تستطيع الجمع بين عدة وسائط، إنه ” حاسب آلي يضم نصا وصورة و فيديو و أدوات أخرى. إنه وسيلة للمستخدم يريد بها خلق عالم متصل مع الأشياء”. وقد توسع معناه ليشمل كل البرمجيات والأجهزة ومحتويات النشر التفاعلية التي تتأسس على الاسخدام الثابت أو المتحرك للصورة والصوت والنص. يستعمل متعدد الوسائط لتوضيب المشاهد المسرحية من خلال تنسيق الأصوات وتنظيم الصور التي تشكل فضاء العرض .
5. ذكره محمد شويكة “المفارقة القصصية (في رقمنة الأدب)، سعد الورزازي للنشر/ الرباط- الطبعة:1/2007/ص23.
6. من بين هذه الآليات نذكر:
“-أجهزة عرض المؤثرات الخارجية، مثل منظر النيران –منظر الأمطار –البرق…
-جهاز عرض الحزمة الضوئية المنفرجة وهو ما يسمى بعرض الظل او “جهاز ليننباخ”
-عرض متعدد الصور: يشتمل على تركيب الصور المتعددة…
-جهاز عرض الفيلم “ذو الصورة المتحركة”.
-التشكيل بأشعة الليزر أو الهولوجرام.
-أجهزة عرض النماذج و المؤثرات الخاصة الخارجية”الجوبو”
انظر في هذا الصدد: عبد الرحمان دسوقي ” الوسائط الحديثة في سينوغرافيا المسرح”،دفاتر الأكاديمية-مسرح/العدد12، 2005 ص:54.