*خيري منصور
في ذروة هذه الانفجارات المتعاقبة والبركانية للمكبوتات العربية التي تفاقمت وتعاظمت في باطن الذات المقهورة، يتم التلاعب بالبوصلات كلها بدءا من البوصلة الوطنية، وتوظف الثقافة من خلال ما تم تدجينه منها لصالح بوصلة بديلة، وهذه الظاهرة ليست طارئة في عالمنا العربي، وغالبا ما حدث ذلك عبر تجليات عديدة في مراحل الانحطاط، أو في خريف الدولة التي أصابتها الأنيميا وأفقدتها المناعة، ومن تابع الميديا العربية، فضائيا وأرضيا وبرمائيا أيضا هذه الأيام، لا بد أنه رأى تجسيدا حيا لما أعنيه بتهريب الواقع، وتقديم قضايا بديلة يتم إنتاجها أنبوبيا كي تحجب القضايا الحيوية وتطردها إلى الهامش.
سجالات عقيمة حول الجنّ والإنس وصراعهما، باعتبار هذا الصراع المُتخيّل بديلا لصراعات وجودية، تهدد هويات وكيانات وذاكرات قومية، تتزامن مع هذه السجالات حروب كلامية ودونكيشوتية حول تصريح أو رأي صدر عن هذا الطرف أو ذاك، ممن أصابتهم الفوضى وضجيجها بلوثة في العقل، بحيث تنصرف القنوات الفضائية ومعظم الصحف عن بؤرة الحدث إلى مباراة خرقاء بالذخيرة اللغوية الميتة، ويعود الهجاء بكامل حمولته إلى الألفية الثالثة، لكن بعد استبدال الصيّغ والأساليب وتزدهر الثنائية المانوية ليصبح كل شيء مكتوبا أو مرسوما بالأبيض والأسود، أي بالخير والشرّ فقط، وبالخيانة والبطولة فقط، حيث ينعدم البعد الثالث في أي إشكالية، وتبتلع كثبان الصحراء ودواماتها كل ما له صلة بالجدلية لصالح الأحادية والأفقية وكل ما يتعلق بالحرية لصالح الارتهان.
هذا الإحراف المتعمد للبوصلة، بدأ مبكرا في تاريخنا، وما كان لقصص تثير الخيال الشعبي أن تزدهر في عصر ما لولا أن هناك من رأوا في ابتكارها ملهاة، ومجالا بديلا للمجال الحيوي للواقع… وسأكتفي في هذا المقام ببعض الأمثلة، بدءا من صلب الحلاج وما ابتدعته السلطة في بغداد من خرافات، منها خرافة طائر الزُبزُب الذي يغزو المدينة ويختطف الأطفال، فقد أمر الناس بالخروج إلى سطوح المنازل وقرع الأواني النحاسية، لأن رنينها كفيل بطرد هذا الطائر، وفيما كان الرنين النحاسي يملأ فضاء بغداد، كان رماد الحلاج يتحول إلى غيمة سرعان ما حجبت الأفق.
وفي مطلع القرن العشرين كان الاستعمار بشكليه الأنكلوساكسوني والفرانكفوني يتقاسم تضاريس الوطن العربي استعدادا لتشطيره بالسكين التي أمسك بها سايكس وبيكو، كما لو انهما يشطران كعكة عيد الميلاد، في تلك الأيام افتعل فقهاء التهريب واستبدال القضايا حكاية لا علاقة لها بما يجري، هي زواج الشيخ الأزهري علي يوسف، وفي الربع الأول من القرن العشرين كان الوطن العربي يرزح تحت احتلالات وانتدابات وأشكال متعددة من الوصاية عندما تم التلاعب بالبوصلة، وأصبح أهم حدث يجتذب الناس هو صدور كتاب للشيخ علي عبد الرازق يناقش فيه أصول الحكم في الإسلام، ومن ثم كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي، وفي ستينيات القرن العشرين تم اختراع حكايات من طراز طائر الزبزب في عواصم شهدت ثورات وانقلابات، ففي مصر لعبت الدراما الشعبية التي أعاد إنتاجها نجيب محفوظ في رواية «اللص والكلاب» وتحولت إلى فيلم سينمائي، دورا في صرف الانتباه عما يجري على أرض الواقع، وأصبح سعيد مهران الفزّاعة الجديدة، الذي تُنسج حوله القصص وبواسطته يتم التلاعب ببوصلة الخوف، ثم تكرر ذلك في حكاية عراقية حملت اسم ابو طُبر، وكان حديث العاصمة كلها لفترة من الوقت، وكأنه صورة أخرى معاصرة من طائر الزبزب!
وفي الأيام التي اعقبت الخامس من يونيو عام 1967 أصبح الوقت مناسبا لابتكار العجائب، وهناك أمثلة ذكر بعضها صادق جلال العظم في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، ومنها الظهور المتكرر للسيدة العذراء، وفي حروب الخليج الثلاث ظهرت عجائب أخرى، منها ظهور صورة زعيم عربي في القمر، أو في ثغاء عنزة، ثم كان ما كان! ما يحدث الآن لا يخرج عن هذا السياق، لكن الجديد فيه هو التقنية وتوظيف التكنولوجيا لخدمة الميثولوجيا.
إن هذا الفقه الذي يتعهده دهاقنة التحريف وصرف الانتباه عما يجري كان لعدة عصور سببا في تجريف الوعي، واشغالا للناس في شجون تشحذ فضولهم لمعرفة أنكى من التجهيل. والعالم العربي الذي يعتذر بعض باحثيه عن تقديم إحصاءات دقيقة عن فائض تخلفه في كل المجالات، لأنها تجرح كبرياءهم القومي، هو الآن مسجى بين سحرة وأفاقين وقرّاء كف وفناجين.
لهذا علينا ألا نفاجأ إذا قيل لاحفادنا ذات يوم إن العملية الجراحية الصعبة التي أجرتها الثورات والانقلابات في بلادنا قد نجحت، لكن المريض مات!
______
*القدس العربي