محمد أشويكة
في الفيلم الروائي الأول للمخرج البحريني محمد راشد بوعلي “الشجرة النائمة” تضيق الحياة بمقاول أو مستثمر، إثر العسر الذي تعانيه مهنته الحرة، فيقرر إيقاف شركته ليقوم مضطرا بفعل صعوبة الأوضاع بتغييرها لصالح سياقة سيارة أجرة صغيرة، ستقوده مسارات المتناوبين على امتطائها إلى اكتشاف تلك الشجرة، الدوحة العجيبة، التي يذهب إليها الناس بغرض فك طلاسم المنغلق، وكسر جسارة بعض هموم الحياة الملغزة من باب تعطل الحركة الجسدية، وانصراف الوعي وعودته، والإبهام الناتج عمّا لا نستطيع تفسيره من حولنا، في الطبيعة العامة، وفي طبيعتنا المخصوصة التي تهم جسدنا وروحنا.
ويعرض فيلم “الشجرة النائمة” قصة زوجين لا تستطيع ابنتهما الصغيرة التجاوب ولا الاستجابة مع ما يدور من حولها، حيّة ميّتة، فتصيبهما الفوبيا (الخوف المرضي) من الإقدام على الولادة من جديد، وهما المقبلان على الحياة بكل ما تتطلبه ورطاتها ومآزقها من مغامرات الانغماس في لذتها، والاستزادة من نسغها، والارتواء من سوائلها التي تكسبنا تلك المناعة المضادة لكل ما من شأنه أن يكدر علينا صفو العيش ذاته.
ومع ذلك فالمقاومة التي يظهرانها سرعان ما ستنكشف كقناع حاجب للألم، إذ يستحوذ الحزن والأسى على كل منهما كلما انفرد بذاته أو وجدا لنفسيهما خلوة ما. ينجح المخرج في جعل كاميراه مطواعة لسبر غور تلك الذوات المتألمة التي تعيش تمزقات مضاعفة، فكل زوج يفكر مليا في مصير فتاة جميلة تشبه المومياء، ويأسف لأسيرة قوية لعلة تذوّبها يوما بعد آخر، بالرغم من انسيابية الحياة أمامهما.
حالت تلك الواقعة دون استمتاعهما بالحياة، فالزوجة سجينة البيت إثر عدم قدرتها على مبارحة ابنتها، والزوج سجين تلك الوضعية المأزومة اللهم إذا استثنينا الساعات التي يقضيها بالخارج رغم الحزن الذي يكتنفه، ويسيطر على كيانه.
فوبيا الإنجاب
قد تتعدد الأقفاص والسجن واحد، وقد تنزاح الدلالة ولكن المعنى لا يمكن أن يتجاوز السجن والأسْر والاحتجاز والتقييد والاعتقال، فكلما فكر الزوجان في المتعة تنتاب أحدهما مأساة ابنتهما.
يخرج الأب للشارع، ويلتقي الناس في وسطه المحدود جدا، بل يفقد شهية النفخ في آلته الموسيقية التي تختزن قرْبتها أنفاسه الحزينة لتنفجر نغماتها الشجية، وكأنها روح ابنته الساكنة، أما زوجته الجميلة فتنشغل بالاعتناء بنباتات بيتها وأسماك الأكواريوم المنزلي الجميلة، في حين تهتم الخادمة بشؤون البيت وطائر القفص النشيط، وكأن الديناميكية المحبوسة داخل القفص والحوض الاصطناعي تبحث عن أفقها الطبيعي العادي أو هي قرينة للحركة المحبوسة في جسد الطفلة النائمة.
يسائل المخرج قضية الموت التي لا تنفصل عن الحياة، ويهتم باستنطاق العادي والروتيني الملفوف في تفاصيل ممارستنا اليومية. لا يستثمر الفيلم الحوار بشكل كبير، ولكنه يلجأ إلى توظيف تقنية التبئير بمعناها الشامل: يركز على الرجل (جمعان الرومي) والمرأة (هيفاء حسين) اللذين يعيشان مأساتهما في مجتمع محدود العلاقات، فباستثناء الخادمة (مريم زيمان) والضيف (إبراهيم خلفان) وزبائن الشركة الذين لا نراهم، وركاب التاكسي، لا نلمس إلاّ حياة شبه راكدة.
قد نجزم بأن الأمر عرضي ولكنه لا يخلو من دلالة. إنها مأساة المجتمعات العربية التي صارت الحياة تضيق بها يوما بعد يوم بفعل الضغوط الاقتصادية، وهبوب رياح العولمة عليها، إذ صار كل واحد من أفرادها هائما يجري خلف مراكمة المال أو البحث عن لقمة العيش المرة.
سيهتدي الرجل بطريقة غير مقصودة وهو يأخذ زبونين (رجلا وزوجته) إلى تلك الشجرة الكبيرة ذات الفروع الممتدة، اليانعة، المعادلة للحياة، في عمق الصحراء إلى غاية غيبية في نفسيهما، فتسري الحركة في جسد ابنته الساكن. تُرى ما دلالة ذلك؟ هل تحررت روحها بطريقة ميتافيزيقية مستعصية عن الفهم، وهل المغزى من تلك المقاربة هي تربّص القدر في كل ما يقع في مجتمعاتنا؟
نعم، يسائل الفيلم قضية الملغز والمعجز الذي يهيمن على الحياة الروحية لدى جزء كبير من مجتمعاتنا العربية الإسلامية التي تستسلم إلى الميتافيزيقا كلما ضاقت ذرعا بالحياة، وهي التي تنعم بالأمية الحاجبة لنور العلم عليها، ويرفل جزء كبير منها في النعيم الاقتصادي الذي لم تسهم خيراته في عقلنة الأمور بها.
إن ذلك التساكن العجيب بين العادي والغريب، المعلوم والمجهول، الحاضر والغائب، الدّارج والمعجز هو السر في طمأنينتها، فكلما انسدّ طريق العقل الضيّق أصلا تنفتح أبواب ونوافذ وشقوق اللاعقل ليتحقق نمط عيش مريح.
سينما المؤلف
يعتمد الفيلم أسلوبا ينزاح ببوصلته نحو سينما المؤلف بالنظر إلى اعتماده الكبير على الأسلوب الرمزي لاستنطاق السلوكات البشرية الماورائية، وميله للتعامل مع موضوعات حساسة بطريقة فنية بليغة تستثمر الموروث لتنتقد السلبي فيه فتصير الكاميرا شفافة تجاه مجتمعها، غير متصادمة ولا مهادنة لما يعتمل فيه خصوصا، واعتمد كذلك على سيناريو متميز من تأليف الكاتب فريد رمضان الذي نهج أسلوبا سرديا يعتمد مبدأ التقطيع عوض الاسترسال الخطي، فضلا عن مراكمة المخرج لتجربة سينمائية مهمة من خلال أفلامه الروائية القصيرة التي نذكر منها فيلمي “كناري” (2010)، و”هنا لندن” (2012) مثلا.
ويعتبر فيلم “الشجرة النائمة” استمرارا للأسلوب الذي درج عليه محمد راشد بوعلي في أفلامه تلك، والمنحاز فيها إلى الرمزية لمعالجة القضايا الغائرة في الذات العربية الإسلامية خصوصا، والإنسانية عموما، لأن الخطاب حول الروح قد ينطلق من فكرة معينة ليصير منسجما عبر الصياغة والسياق والأسلوب والعرض داخل سياق ثقافي معين.
تنتعش في ثنايا أعماله كما في فيلم “الشجرة النائمة” عدة رموز تسعى في مجموعها إلى تشكيل نوع من التواصل المستمر مع عالم الأساطير الحبلى بكل ما هو فانتاستيكي، لا سيما وأن البشرية لم تستطع إحداث قطيعة جذرية مع نظام التفكير الأسطوري، وخاصة تلك المجتمعات التي يهيمن فيها الروحاني على المادي، والخرافي على العقلاني، ليعطينا تشكيلة اجتماعية وذهنية هجينة يمكن أن نصطلح على تسميتها بـ”مجتمعات ما بعد الأسطورة”، اعتبارا لمدى التعقد الذي تتآلف فيها المتناقضات، وصعوبة إيجاد تفسيرات مقنعة لها.
كل هذا يحدث في الدنيا كما يحدث في الفيلم طبعا، لا سيما وأن الناس يدافعون عنها بنفس الطريقة التي عنون بها مخرج الشريط مقاطعه الفيلمية الكبرى، والتي تبحث في تشكّل علاقة الحي بالميت، والميت بالحي، فهل نحن أحياء أموات أم أموات أحياء أم أننا نعيش ذلك بشكل غامض؟
____
*العرب