في الحياة لغز ما


تشَتين ألتان*/ترجمة صفوان الشلبي


لابدَّ أن لغزاً ما يكمن في حياتنا.
هناك لغـزٌ في انتظار الفتيات الصغيرات لرنين الهاتف، طلسم في حديثهن همساً يُسررن بأسرارهن: 
– بداية أمسَكَ يدي، ثم قرّبها نحوه ببطء…
ولغز في أحاديث الأصدقاء الذين لا يتجاوزون السادسة عشرة أو السابعة عشرة… طلسم يزيد من خفقان قلوبهم، ضحكاتهم نمط مختلف، لتسريحة شعرهم شكل مختلف، وما يختلقون من أكذوبات لآبائهم كما لأمهاتهم أمر مختلف. 
حتى الشباب اليافعون الذين لم تمضِ سنة بعد على تجربتهم لأول علبة سجائر، يبدون كمدمنين، لا شيء يعنيهم. يعشقون فتاة. بل ربما الفتاة هي العاشقة. لكن… هناك لغز ما في هذه الـ(لكن)… تبدو نظرات الجميع بلا استثناء وكأنهم فاقدو الوعي، لكنهم في الحقيقة يحدقون في وجوه من يحبون… 
تبحث النساء الشابات عن هذا اللغز، من دون أن يُظهرن ما يختلج في صدورهن. وما إن يبطل سحر هذا الطلسم، حتى تصبح الأيام بلا هدف، وتتحول إلى حسرات ودموع. يفقد النهار ألَقه، وتنكسف الشمس، ويطول الليل. يخيِّم الملل على الوقت فلا ينقضي…
أما الرجال… وإذا ما تاهوا في هذا اللغز… 
– 1 – 
تفرغ زجاجات العرق، ولا تملأ فراغ المكان الذي يتركه اللغز… الفراغ الذي يحدثه بُطلان سِحْر هذا الطلسم… القمار هو لغز من المنشِّطات. يهيمن عليه ضجر غريب لا انعتاق منه، فيلجأ بشغف متراكم، خلف دستات ورق اللعب…
ذات زمان، كنت في مونت كارلو. نساء مسنات مثقلات بالماس، كن بأغبابهن المتدلية، يبحثن عن آخر طلسم على الطاولات الجوخية الخضراء…
لا بدّ من لغز لهذه الحياة، كغضب لا يهدأ، كالبحث عن عشق لا سبيل للخلاص منه، كإطلاق العنان للنفس بكتابة الشعر، كقذف المرآة بقدح، كالجنون عند السحر…
لو لم يكن مثل هذا اللغز… لو تحلق ذقنك من دون رغبة، لو أصاب العفن كل مشاعرك، لو كان رجال ميليشيات تحرير أميركا الجنوبية لا يعنون لك شيئاً، لو كنت لا تفكر بجسد امرأة عارٍ أثناء محاضرة جادّة، وإذا ما لم تراودك، في لحظة ما، رغبة في داخلك تدفعك إلى رمي استقالتك من عملك والمغادرة… لن تقدر أن تكون ولا حتى ممسحة تعجّ بالغبار مركونة على عتبة باب…
بحمى هذا اللغز يتمّ تسلُّق قمة إفرست… بهذا اللغز تشتعل وتنطفئ قناديل الليالي الموحشة لأول مرة. بهذا اللغز تتشمّم أقدام أول طفل لك وقد أخذته إلى حضنك… 
في هذا اللغز: 
– سعي وركض ومعاناة- 
في هذا اللغز صورة تحبُّها معلَّقة على جدار بيتك.
في هذا اللغز تفحُّص امرأة على انفراد لثدييها، كما في هذا اللغز نظرة رجل خلسة لساقَيْ شابة تصعد الدرج…
– 2 – 
في مراسم الجنازة يتأجج هذا اللغز، ويلسعنا بنيرانه… جثة نحيلة، وجه أصفر وحَنَك مربوط ممدّد داخل النعش… لكنها ليست جثّة لصديقك، بل جثَّتك أنت تراها وأنت حي. هكذا دائماً تسير خلف جثّتك في جنازات معارفك… وتتنهد،
وتقول: هي الحياة.
وتقول: هم السابقون ونحن اللاحقون.
وتقول: لقد كنا معاً الأسبوع الماضي… 
وأثناء نزول النعش داخل القبر… كم هو رهيب النزول إلى هناك!… خاصة عند إلقاء آخر رفش تراب…
يتأجج هذا اللغز، ويلسعنا بنيرانه… 
ومع مرور الوقت، تتسارع محركات حياتك، يتنحّى الندم جانباً، ضغوطات المجتمع، الديون المستحقَّة غير المُسَدَّدة، عذاب تأنيب الضمير عن حياة المجون السرية، جميعها تصغر وتتضاءل أمام عينيك…
فيما لغز عمرك يبدأ ثانية بشكل أشدّ…
بينما تخلع جوربيك ببطء يتراءى أمام عينيك زوج من السيقان البيضاء تتغازل.
في السينما تصبح أنت راعي البقر صاحب أسرع لكمة.
عند حاجز إضراب غير قانوني. أول رصاصة تنطلق تصيب جبينك.
ثم ترقص على الشواطئ الرملية… بحر في منتصف الليل، وليل في وسط البحر. أشياء وأشياء تتلاشى وتذوب على السواحل… 
في الحرص الذي تبديه نحو حياتك، يكمن اللغز.
إذا ما انقضى الوقت يتحول إلى نعل ممزق بلا صاحب. خيبة أمل مكتومة تدور في الأعين التي تحيط بك:
– كم أنت تافه وبليد…
– 3 –
الطلاسم المنطفئة تسعى لتطفئ الطلاسم الأخرى. لكن الطلاسم المضيئة، تعمل على إنارة الطلاسم الأخرى…
وعندما تسقط النساء بجهالة داخل هذه اللعبة الغادرة يَشْرَعْن بالتذمر:
– أضعتَ لي زهرة شبابي…
– سابقاً، هل كنتُ أنا كحالي الآن؟… 
– أوف يا ويلي، ثقلك يسحقني…
يتوقَّعن ولوجاً مطواعاً من خرم إبرة. في رنين ضرب الأكف المتصافحة صوت شهوة. مديح صادر من الأعماق. وعند فكّ الأزرار يتمنعن بغنج:
– هيه! ليس الآن… 
هو هكذا لغز الحياة. بهذا اللغز، يُضغط على زناد البنادق، وبهذا اللغز يتم تسلُّق الجبال، وبهذا اللغز تقول لعشرات الآلاف: هيا تقدموا… 
إذا لم تعش تلك التجارب بعد، وإذا لم تنجرف وراء عواطفك ثلاث مرات في الشهر على الأقل، وإذا لم تُثَرْ، ولم تخبط الطاولة بقبضتك، وإذا لم تلمس بطيف يديك قضبان زنزانة أو كتفين عاريين للمرأة التي تحب… أيها الأحمق! لماذا أتيت، إذن، إلى هذه الدنيا؟ أ لتحصي الشهور المنقضية وترسل التهاني بالمناسبات؟ أم لتجلس مثلي على أريكة في عتمة المساء محدِّقاً في النور الذي أذكاه هذا الطلسم، تبكي حالك بابتسامة مصطنعة؟
_________
* كاتب رواية وقصة قصيرة وشاعر وصحافي وكاتب زاوية وكاتب مسرحي ونائب سابق في مجلس الأمة التركي. ولد في إسطنبول عام 1927. بدأ حياته الصحافية مراسلاً لصحيفة الأمة، ثم كاتب مقالة في العديد من الصحف التركية. أصبح نائباً في مجلس الأمة عن حزب عمال تركيا ما بين الأعوام 1965 – 1969. رفعت حصانته البرلمانية، ثم أُعيدت، فكتب خلال تلك الفترة مذكراته بعنوان «عندما كنت نائباً للأمة». تعرَّضَ للاعتقال ثلاث مرات جراء مقالاته الجريئة، ووُضِع تحت الإقامة الجبرية أكثر من مرة. صدر له ما يزيد على ستين كتاباً في الرواية والشعر والقصة القصيرة والمسرح والمذكرات والرحلات والمقالة والأدب الساخر وأدب الأطفال. نال عام 1973 جائزة أورهان كمال للرواية، عن روايته «الإقامة الجبرية الكبرى»، ونال عام 1978 جائزة المجمع اللغوي التركي عن روايته «الإنسان اللغز». يعتبر من أغزر كُتّاب الزاوية عالمياً، إذ ما زال يكتب زاويته اليومية «سيرة» في صحيفة ميلليّت منذ عام 1959حتى الآن.
مجلة(الدوحة)

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *