*رزان نعيم المغربي
كان لي في عمر المراهقة صندوق صغير، احتفظت بداخله بكنوزي الصغيرة وأسرار ذاك العمر. وله مفتاح صغير متدلٍ من حمّالة مميزة ومخبأة في حقيبتي، حيث لا يمسه ولا يجرؤ عليه أحد، إلى حين اكتشفت عبثاً أصاب محتوياته، ولم أفلح يومها بالوصول لذاك الفاعل ولا طريقة الاستيلاء على مفتاحه. وكُشف السرّ بعد أعوام طويلة، حين اعترفت لي صديقة مقربة بأنه كان موضوع رهان بينها وبين صديقة أخرى لمعرفة محتوياته، واستخدمتا طريقة لم تخطر لي، وهي فتحه من الخلف حيث تمسك غطاءه مفاصل حديدية ومسامير صغيرة.
هي قصّة من الماضي لكنها عتبة تفتح باباً مغلقاً على صور من الذاكرة لها سطوة وافتتان، كما يحدث عندما نتعثّر بمفتاح مرمي في الشارع يستدعي لمخيلتنا سؤالاً من يكون صاحبه؟
تلك الصور تفتح أبواب الذاكرة المغلقة، والمفتاح في حقائبنا يغلق أبواباً أصبحت خلفنا تماماً، ومفتاح آخر يفتح عتبة لحياة تحمل معها الدهشة بعد انتظار طال أم قصر. إلا أن بين العتبتين أسراراً وتجارب لا تخلو من دهشة البداية، فهو يمتلك السطوة على ذاكرة محملة بصور مختلفة لشكله ووسمه. فمرة اسمه مفتاح مدينة ومرة مفتاح بيت أو مصارف وخزائن، ومفتاح غرف الفنادق، ومفتاح سيارة قديمة أو حديثة، مفتاح زنزانة أو سجن شهير له أشكاله النمطية القديمة. ويبقى أشهر مفتاح ما زال يحمل سرّه الغامض، هو مفتاح الحياة الفرعوني بشكله المميز، الذي عنه نسخت معظم الأشكال التقليدية الأولى، ثمّ لحقه التطوّر، فأصبح شريحة ممغنطة أو بصمة عين، أو حروفًا وأرقاماً سرية الكترونية. في النهاية لكل هذه المفاتيح مالكها الدائم أو العابر.
وبشكل آخر، للمفتاح هوّيات متعددة منذ الأزل. وكم من قصص عن مفاتيح المدن، التي صار اليوم تسليمها بين عمدة بلدياتها، تقليداً للتعاون بينهم. وخلّدها يومًا الفنان الإسباني، دييغو رودريغيز ڤيلاسكيز، في رائعته عندما سلّم عمدة بلدية بريدا الهولندية، مفتاح المدينة للجنرال الإسباني بعد أن خسر الحرب. كما خلّد مفتاح سجن الباستيل وتمّ اهداؤه للرئيس الأميركي، جورج واشنطن.
تلك حكايا التاريخ، أما صلته القريبة من تاريخنا الشخصي فلأنه يصبح كائنًا لصيقًا بأدق تفاصيل حياتنا، وسلسلة تربطه بذاكرة بيوت نسكنها، أو نتوقف لفترة ما فيها. تداعت هذه الصور لحظة استلمت مفتاح بيتي الجديد وأنا أعبر نحو الضفّة الأخرى؛ بيت في مدينة غريبة شريانها نهر الراين وشواطئها بحر الشمال، مفاتيح سبقها تاريخ طويل لعدد لا أذكره لبيوت أقمت فيها. ولكلّ مفتاح تاريخه وعلامته المميزة، طالعه وحظّه اليومي. بعض المفاتيح أسقطتني في شرك السأم من بيوت لم توائم مزاجي التوّاق لنوافذ واسعة بحرية، وأخرى أوقعتني صريعة غواية السفر الدائم وحقائب بمحاذاة الباب على أهبة الاستعداد للترحال فجأة. ومفتاح بيت دافئ لكنه لم يلهمني كتابة أي نصّ مميز، فلم أطل البقاء فيه، واستبدلته بمفتاح شغوف بالحياة المثيرة، بحيث كنت أسرق الوقت لأحلامي الهادئة، أطيل التأمل في تحقيق مشروعي المؤجّل، ليكون المفتاح ملكي لا ينازعني فيه أحد، ولاينتظرني مؤجر في نهاية الشهر.
كان الحلم المؤجّل له حمّالة جميلة مصنوعة من الفضة، لكن مفتاحها اغتصب مني حالما استعرت الحرب، لم يعد البيت ينتظرني في مدخل المدينة، حيث أتفقده في رحلة ذهابي وعودتي من المطار كلّ مرة. ساكنوه غرباء دخلوه عنوة، عبثوا بأحلامي المرسومة للون الستائر وركني الخاص، حيث مكتبتي وطاولة الكتابة والموسيقى والإضاءة الخافتة التي أحب. هذا المفتاح الذي بدا لي أنه أصبح في سجل الخسارات، أصبح خلف ظهري تماماً اليوم، وسجّلته مفقودًا بسبب الحروب، وعبرت نحو مدن جديدة. ولعام كامل مضى، امتلأت الحمّالة بأحجام متعددة وأشكال مختلفة من المفاتيح، حتى حانت تلك اللحظة الحقيقية، كنت أستلم من موظفة البلدية المفتاح، وأحدث نفسي أن في الحياة متسعاً للحبّ والأحلام، سوف يتغير ركن الكتابة ، وأبحث عن أماكن متفرقة لوضع أرفف الكتب، وأكتفي بتأمّل الطقس المتقلّب من نافذة واسعة، وأتذكر همس صديقتي حينما أخبرتها عن قلقي من تأثيث مكان جديد للمرة العاشرة، فهمست لي : أنت لا تحتاجين سوى مدفأة تحميك من صقيع البرد وطاولة وكرسي للكتابة. عملتُ بنصيحتها وأضفت تعويذتي المفضّلة، التي وجدتها مصادفة في محل لبيع المقتنيات، كانت تنتظرني حمالة مفاتيح فضية مزينة بالأحجار الزرقاء.
________
*العربي الجديد