*عبده وازن
إنها سكاكين المطبخ، لم يهبهم إياها حزب أو تنظيم، جلبوها من بيوتهم، في غفلة عن أنظار أمهاتهم، خبأوها في ثيابهم وخرجوا ليطعنوا بها عدوهم الذي يسمى أيضاً يأسهم الكبير. لكنهم عندما يشهرونها، يبدون كأنهم يستلونها من أجسادهم المطعونة ومن صميم جراحهم المفتوحة. ليس هؤلاء بقتلة، إنهم الضحايا ينتقمون لأنفسهم، لشعبهم وأرضهم، لشهدائهم. إنهم فتيان الحجارة وقد كبروا ليصبحوا فتيان السكاكين. لم يبق للحجارة أثر في مواجهة جنود الاحتلال، أضحى الحجر ذكرى ورمزاً في قصيدة أو زهرة في لوحة، وكان لا بد من استبداله ولو بسكين مطبخ. إنهم فتيان الأحياء الفقيرة والحارات المحاصرة ذلاً وهواناً، لم يدرّبهم أحد ولا توجّههم جماعة. انطلقوا بحرية وعفوية بعدما بلغ يأسهم ذروته وأدركوا أن لا مستقبل لهم ولا حتى حاضر، مثلهم مثل بلادهم المعذبة والمقسمة والمشرذمة. لقد وجدوا أنفسهم مقتولين، أحياء مقتولين، ولم يبق لديهم ما يخسرونه. ليس هؤلاء قتلة، إنهم القتلى وقد استفاقوا ليجدوا أن في أجسادهم سكاكين إسرائيلية وطعنات ورصاصات، فهبوا لينتقموا، مدركين مسبقاً أنّ عيونهم لن تقدر على مواجهة مخارز المجرمين الكبار، لكنهم غامروا بجرأة وحماسة، زارعين الخوف في دولة الاحتلال وفي وسط شعبها المتغطرس الذي بات يؤكد أنه صاحب الأرض.
في قصيدة عنوانها «ليت الفتى شجرة»، يستعير الشاعر محمود درويش عبارة الشاعر الجاهلي تميم بن مقبل «ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر» ليحفر فيها مجازياً، جاعلاً الحجر شجرة. وقبل هذه القصيدة التي ضمها ديوانه الأخير «أثر الفراشة»، أسبغ شاعرنا – وشعراء آخرون كثر – كناية الحجر على حماسة فتيان فلسطين الذين أحدثوا ثورة الحجارة، مؤوّلاً المعنى القدري للقصيدة الجاهلية تأويلاً فلسطينياً «بطولياً». الحجر لم يغب عن ساحة المواجهات اليومية في فلسطين، ما زال سلاحاً من الأسلحة الشعبية والشبابية ولو رمزياً وبلا أثر. ولم تأت السكين، سكين المطبخ، إلا لتؤازره فتجرح وتطعن وتؤلم وتزرع الخوف في قلوب الإسرائيليين. لقد كسرت سكاكين المطابخ، سكاكين اليأس والألم، أوهام العجرفة الإسرائيلية وتسللت إلى قلب الأحياء في القدس الشرقية وتل أبيب وبئر السبع وسواها، زارعة فيها القلق والرعب، وجعلت الإسرائيليين يلمسون يقيناً أنهم لن يكونوا يوماً في أمان وطمأنينة.
ليست هذه السكاكين قاتلة وحاملوها ليسوا أصحاب خبرة في الطعن، فهم ما إن يطعنوا حتى ترديهم البنادق، وقلة منهم تتمكن من الهروب والنجاة. هذه أصلاً أعمال خطرة جداً وتتطلب جرأة وبسالة. إنها مغامرة مجهولة العواقب ولا تخلو من الطابع الانتحاري. شاب أعزل إلا من سكين، ينقض على عدوّ قد يكون مسلحاً، لا سيما بعدما سمحت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لمواطنيها بالتسلح الخفيف كالمسدسات مثلاً. إنه السلاح الأبيض الذي تزيده أيدي الفتيان المقهورين بياضاً. سلاح الإرهاب الأبيض، الإرهاب الشرعي الذي يقاوم الإرهاب الوحشي الأسود الذي قضى أول ما قضى، على إنسانية الإنسان. هؤلاء الفتيان هم أبرياء أمام الجنود الخبراء بالسكاكين، مثل أسلافهم النازيين. في صيف العام 1934، أنجز النازيون «ليلة السكاكين الطويلة» التي أرعبت ألمانيا وقضى هتلر خلالها على أنصار له عصوا أوامره وراحوا يستعدون للانقلاب عليه. الإسرائيليون لا ينجزون ليلة سكاكين طويلة بل لياليَ، بل فصولاً من القتل، بالسكاكين والرصاص. إنهم النازيون الجدد، ورثة النازيين القدامى الذين جعلوهم من ضحاياهم. الضحايا، وفق ما يروي التاريخ الحديث، انقلبوا إلى جزارين ومجرمين. أما ذريعتهم الميتولوجية فهي واهية ومزورة. احتلال أرض، تحقيقاً لحلم توراتي وخرافة طالعة من حطام التاريخ.
ليس هؤلاء الفتيان بقتلة. إنهم المقتولون الذين يواجهون قاتليهم. هذا ليس بكلام مجازي. لم يبق أمام هؤلاء سوى الانتقام مهما كان ثمنه. لقد جرّدهم العنف الإسرائيلي من إنسانيتهم نفسها، جاعلاً إياهم ضحايا عرضة للقتل كل يوم. وعبر قتل إنسانيتهم، قتل كل أمل بعلاقة إنسانية بين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين لا يمكن وصفهم إلا بالمحتلين. وكم كانت هذه العلاقة الإنسانية المفترضة بين الجلاد والضحية موهومة، على رغم ما أريق حولها من حبر ظل حبراً على ورق. كيف يمكن أن تقوم علاقة مع عدو لاإنساني، عدو لا يؤمن بإنسانيته ولا بإنسانية ضحاياه؟
إنها السكاكين، سكاكين المطابخ، سكاكين اليأس والأسى، يستلّها الفتيان الفلسطينيون من أجسادهم وأرواحهم المطعونة ليطعنوا بها من انهال عليهم طعناً، وعلى ماضيهم وأهلهم وأرضهم.
_______
*المصدر: الحياة