المخرج والحكايات


*أمير تاج السر


طرح المخرج والممثل الأمريكي المعروف: كيفن كوستنر، مؤخرا، روايته الأولى التي سماها: «جمعية المستكشفين»، وتتحدث عن جماعة من المغامرين، يبحثون عن مدينة أسطورية، في زمن الحرب العالمية الأولى، وقدم كوستنر روايته التي شاركه في أفكارها، كاتب آخر، للجمهور، منذ عدة أيام، وقال بأنه يطمح أن تقرأ الرواية بحب، وستستمر قراءتها لمئة وخمسين عاما، في الأجيال القادمة.
كوستنر الذي تجاوز الستين، وحصل من قبل على جائزة الأوسكار عن إخراجه للفيلم الشهير: «الرقص مع الذئاب»، في تسعينيات القرن الماضي، لم يكتف بشهرته كمخرج، وممثل أيضا، ودخل إلى عرين الحكايات كما يبدو، تلك الصنعة المسكينة، التي تشد رغم مسكنتها، خاصة في الوطن العربي، أحلام عشرات الآلاف من الناس، وفي أي عمر يمكن تخيله. لكن الفارق كبير بلا شك، فكوستنر ليس باحثا عن شهرة، وهي عنده، وليس باحثا عن مال، وقد استخدمه بالفعل في نشر كتابه والترويج له، ولكنه كما يبدو، يبحث عن ضرب جديد من ضروب المتعة، قد يستمتع به بالفعل، ويستمر كاتبا لروايات أخرى ستأتي، أو لا يستمتع كثيرا، ويعود إلى حكاياته الأولى التي لا يكتبها ولكن يقوم بأداء بعض الفقرات فيها، أو يسيطر كمخرج على كل زواياها، ويوزعها على الآخرين.
هذا ما أعتقده بالفعل، لأن الكتابة إن احتوت حكايات وتجارب، قطعا يملكها فنان مثل كيفن، تصبح متعة بالفعل، فالذي يروي قد يستمتع بما يرويه، ويستمتع بما يقرأه من حديث الناس حول حكايته، والذين تعرفوا إلى روائيين شفاهيين، لم يتعلموا ولم يقرأوا أو يكتبوا، لكنهم يستخدمون خيالهم في تسلية الناس، يستطيع بسهولة أن يقرأ ذلك الكم الهائل من غرور المتعة المرسوم على أعينهم، وكيف أنهم يتحولون في لحظات صمت الآخرين لسماع ما يروونه إلى أساطير هم يصنعونها بأنفسهم.
كان حبيب الكذاب، كما يطلق عليه، يسكن في حينا في مدينة الأبيض، غرب السودان، أواسط سبعينيات القرن الماضي، كان شابا ربما في الثلاثين أو الخامسة والثلاثين، لا أذكر بالضبط، نحيفا، داكن اللون، لامع الأسنان، ودائما ثمة منديل أبيض نظيف يحيط برقبته، نوعا من الوجاهة التي كانت سائدة في ذلك الزمان. كان سروال «الشارلستون» ذو الكفة العريضة، قد ظهر حديثا، وكان ارتداؤه محفوفا بالمخاطر، حيث يعرض الشخص إلى الانتقاد الحاد، والمطاردة في الشوارع، بوصفه منحرفا، وربما العقاب في بيت أسرته، إن كان تلميذا، تحت رعاية الأسرة. كان حبيب يرتدي الشارلستون، بألوان مختلفة، يعمل نهارا كعامل بسيط في الصحة البيطرية، ويجلس في المساء على دكة عالية من الإسمنت، أمام بيته، يروي الحكايات بلا توقف، وبلا تكرار للحكاية نفسها، إلا نادرا.
كنا من رواد دكة حبيب، نسميه الكذاب كما يسميه آباؤنا، لكننا في لحظة رواية الحكاية، نتحول إلى آذان شرهة، ويتحول هو إلى أسطورة، نتمنى جميعا لو اقتربنا منها. كانت في تلك الحكايات، شخصيات متعددة، وصلت إلى أي مكان يمكن أن يصله الحلم، وتعرفت إلى كل الأجواء التي يمكن التقاط ملامحها من برامج الإذاعة، أو نشرات الأخبار، أو المسلسلات التي تقدم من «بي بي سي»، والإذاعات العربية، التي يمكن التقاط بثها في تلك المدينة البعيدة في غرب السودان، ولا زلت أذكر قصته عن علاقة غرامية، جمعته بمغنية جاز أمريكية شهيرة، التقاها في فندق إكسلسيور في الخرطوم، وقدمت له سيجارة من نوع: توليت الفاخر. وأهدته عربة بويك خضراء، باعها في الخرطوم واشترى بثمنها بيتا كبيرا.
مؤكد لم يكن هناك سجائر اسمها توليت، ولا توجد مغنية أمريكية، تتكبد مشاق الحضور إلى بلادنا، لتسقط في غرام عامل بيطري، لم يغادر مدينة الأبيض قط، لكنه الخيال التافه، الخيال الوغد حين يتحول نظريا إلى حقيقة، وتلك المتعة الوغدة أيضا التي يقرأها الكذاب في عيون طلاب المرحلة الإعدادية، الذين ينتظرون المساء بلهفة، ليستمعوا إلى رواياته.
أعود إلى مسألة كيفن كوستنر. نعم من حق مخرج وممثل ذي تجارب، ومن حق أي إنسان ليس نجما على الإطلاق، أن يسجل حكايته، حتى لو كانت مجرد هلوسة، مثل تلك الهلوسة التي كتبها ممرض كان يعمل معي، واعتبرها قصة، وكانت عن امرأة سودانية، في قرية، ترتدي ثيابا إفرنجية، وتقول صباح الخير، ويظنها القرويون ألمانية. شيء مثل هذا لم يكن قصة بالتأكيد، لكن لا اعتراض ما دام نتاجا إنسانيا. الذي يعنيني هو مسألة أن تمتد قراءة رواية: «جمعية المستكشفين»، لكوستنر إلى الأجيال القادمة، على مدى مئة وخمسين عاما.
حقيقة لا أحد يعرف ماذا سيحدث خلال مئة وخمسين عاما، ولا أحد يستطيع التكهن بمن سيقرأ ومن سيقلع عن القراءة، وهل ستكون الرواية زخما يستحق الاحتفاء به وتقديسه، كما يحدث الآن، أم أن هناك فنا آخر في الطريق إلى التكون ليصبح رائدا.
لقد علقت من قبل على مسألة الرواية التي تبقى في الذهن لفترة طويلة، بعد رحيل كاتبها، وقد تخلد في الأذهان، وقلت ألا شيء من ذلك سيحدث، لسبب بسيط، هو تغير النمط، وتغير التفكير، وتغير البيئة أيضا، في كل عصر جديد، والذين اعتبروا رواية: «الحارس في حقل الشوفان»، للأمريكي جيروم سالينغر، مثلا، رواية عظيمة، سيأتي أحفادهم، وبمنظور البيئة الجديدة، والمعطيات الحديثة للكتابة، ليعتبرونها رواية بدائية، لا تستحق القراءة. أيضا أدب شكسبير الذي كان أدبا متجاوزا ومهما، ويمثل حضارة بلاد مثل بريطانيا، الآن يقرأ بنظرات أسميها متحفية، أي نظرات تؤرشفه في الذاكرة قبل أن تقرأه.
إذن ننتظر قراءة رواية المستكشفين لكيفن كوستنر، لنرى هل استطاع المخرج الحاصل على أرفع جوائز السينما، جائزة الأوسكار، أن يروي حكايته بفن، يؤهله للبقاء على سرج الكتابة، أم مجرد نزوة قد تنقشع حالا.
_______
*المصدر: القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *