*لطفية الدليمي
(4)
يعمل الفنّ الروائيّ على إشاعة نوعٍ منعش من الحيويّة الذهنيّة والعبقريّة الإنسانيّة المميّزة إذا مانظرنا إليه كنوعٍ من ألعاب ذهنيّة ترتقي بالفعاليّات العقليّة المعروفة . ولاغرابة أن تقترن الأعمال الروائيّة العظيمة بالمجتمعات التي حقّقت أعلى درجات الإنجاز العلميّ والتقنيّ والاقتصاديّ والسياسيّ ، وفي الوقت ذاته نلمح تراجع الفن الروائيّ في المجتمعات التي تعاني نكوصاً ثقافيّاً وحضاريّاً و اقتصار ذلك الفن غالبا على بعض التوثيقات التسجيليّة الساذجة والانشاءات التلفيقية لكتابها .
ثمة ملاحظة مهمة في تأريخ الرواية العالمية تدعو إلى الانتباه – إذ في الوقت الذي خدمت فيه الرواية الوعي القومي وتَشَكُّل مايسمى بـ ( الضمير الجمعي للأمة ) وبخاصة اثناء نشوء مفهوم الأمة – الدولة Nation – State وبزوغ عصر الدول القومية في القرن التاسع عشر ، وفي الوقت الذي كانت الرواية الناطقة بالإنكليزية توصف بِـ ( الرواية الإمبراطورية ) تنسيباً لها إلى فضاء الثقافة الإمبراطورية البريطانية ، فقد أصبحنا نرى اليوم اتجاهاً روائياً معاكساً يميل إلى عولمة الأفكار والثقافات والاتجاهات الروائية بدلاً من مركزتها في شكل استقطاب أحادي اللون والنكهة الثقافية . لاتخفى بالتأكيد الجوانب الإيجابية للعولمة الثقافية التي تفوق سلبياتها المدّعاة – على خلاف العولمات الاقتصادية والتجارية المتغوّلة – ، كما لاتخفى القدرة الفائقة للعولمة الثقافية في نزع فتيل التأزم الروحي والعقلي ( بل حتى الذهاني ) الناجم عن الشعور بالدونية الثقافية وعدم نيل الفرص المشروعة وبخاصة أمام جيل الكتّاب المنتمين لفضاء الثقافات الهامشية طبقاً لنظرية المركز – الأطراف الثقافية ، ويبدو واضحا لنا أن الرواية تشكل القاطرة الثقافية القادرة على جرّ عربة الثقافة العالمية بسبب النزوع العولمي الطبيعي للرواية في تناولها لمسرات الإنسان ومكابداته على اختلاف طبيعتها وتلاوينها وبصرف النظر عن الحقيقة المشخصة في كون الكتّاب المنتمين لفضاء الثقافات المركزية يتمحورون على اشتغالات مفرطة التمركز والفردانية في حين يتناول نظراؤهم الماكثون في الأطراف الثقافية غالبا الهموم الجمعية ذات التداعيات السياسية والاقتصادية والسايكولوجية الناتجة عن الشعور بالدونية و التهميش والعوز المادي . إن شيوع الندوات والمؤتمرات السنوية التي تُعنى بالرواية والروائيين ربما تكون الدليل الواضح على أهمية الدور الثقافي العولمي الذي تنهض به الرواية وبخاصة الرواية الأمريكية اللاتينية والأفريقية والآسيوية ورواية منطقة الجزر الكاريبية إلى جانب روايات الجغرافيات المركزية التقليدية – سابقاً – ويبدو واضحاً أن الرواية – في خضم العولمة الثقافية النشيطة في وقتنا الراهن – ستحرز الأولوية مقارنة مع سواها من الاشتغالات الثقافية في تهشيم نموذج المركز – الأطراف الثقافي وجعله إرثاً ثقافيا مهملا. وثمة مسألة أخرى ترتبط بالعولمة الثقافية في الميدان الروائي : تلك هي كون الاشتغالات الروائية – إبداعاً وقراءة و متابعة – تستلزم اهتماماً نوعياً جادا بتعلم اللغات الأجنبية وإتقانها إتقاناً تاماً ، لذا أصبحت الرواية توفّر الدافع الذاتي المهم الذي يتقدم – ربّما – على جميع الدوافع البراغماتية الأخرى في ضرورة الإنكباب على تعلم مجموعة من اللغات الأجنبية منذ الصغر وبخاصة لدى هؤلاء الذين يتوسّمون في أنفسهم موهبة إبداعية ويتطلعون إلى احتلال مواقع لهم في المشهد الروائي العالمي، و بوسعنا إيراد قائمة طويلة من مشاهير روائيي عصرنا ( بينهم بعض حَمَلة نوبل ) ممّن يعملون في ميدان الترجمة الروائية.
______
*المصدر: المدى