*أحمد ثامر جهاد
خاص ( ثقافات )
يتناول المخرج التشيلي المبدع اليخاندرو امنيبار في فيلمه المثير للجدل (آغورا-2009) فترة تاريخية حساسة تعود إلى (القرن الخامس الميلادي) كانت شهدت صراعا متداخلا ومستحكما بين جماعات من المسيحيين والوثنيين واليهود خلال الأيام الأخيرة للحضارة الرومانية وبدايات انتشار الدين المسيحي بين أتباعه. إنها الفترة العصيبة التي تفجرت صراعاتها الدينية العنيفة مع واقعة تدمير مكتبة الإسكندرية.
منذ مشاهده الأولى يضعنا الفيلم في خضم أجواء درامية مؤثرة سخر لها المخرج إمكانات تقنية في التصوير والديكورات والأزياء، فقدم بمهارة سينمائية ملحوظة مشهدا فنيا متقنا للإقناع بأجواء الفترة التاريخية التي تدور فيها الأحداث، في حين اشتغلت كاميراه على تأسيس لغة بصرية وجمالية ملفتة تستنطق خصوصية المعمار الروماني الشاهق،عبر زوايا تصوير بليغة تنوعت دلالات المكان خلالها، لتبدو المدينة التاريخية في قلب العالم ضمن حركة تقدم وتراجع أفادت كثيرا من التقنيات السينمائية الحديثة في الإيحاء بمشاهد جميلة ترمز لمجد الحضارة الرومانية وأفولها.
***
تغنت كتب التاريخ بشخصية هيباثيا(hypatia) التي عرفت برجاحة عقلها وجمالها الأخاذ، وحولها دونت عشرات القصص والمآثر لـ جيبون وفولتير وبرتراند راسل وديورانت وليس انتهاء بيوسف زيدان في رواية عزازيل.حتى أن الفيلسوفة وعالمة الفلك الشهيرة باتت رمزا للشهادة دفاعا عن العقل والحكمة والحرية.
إلى حد كبير تمحورت أحداث الفيلم الذي صورت معظم مشاهده في مالطا حول الصراع المرتبط بشخصية هيباثيا ابنة الفيلسوف الفيثاغورسي ثيون (تؤدي الدور ببراعة راشيل وايز) والتي كانت تدير حلقات الدرس الفلسفي في أروقة مكتبة الإسكندرية قبل أن تطالها الجموع الغاضبة تدميرا ونهبا، فكان اختيار شخصية هيباثيا نقطة انطلاق لأحداث الفيلم خيارا ذكيا لناحية وضع السيناريو السينمائي في اتجاه تصعيد درامي متماسك يمزج المصائر الفردية بالقيم والأفكار والمواقف بشكل مؤثر.
وفي جو من الأخوية الثقافية يغرم رجلان من حلقة الدرس بهيباثيا،أحدهما اوريستس(الممثل اوركسار ايزاك) الذي يصبح لاحقا حاكما للمدينة ، والآخر هو العبد النابغ ديفس (الممثل ماكس مانغيلا) الذي يتحول تدريجيا إلى اعتناق الدين المسيحي في زمن حكم البابا كيرلس. تدريجيا يشكل الخلاف بين العاشقين عاملا أساسيا في مسرح الأحداث اللاحقة التي تقرر في النهاية مصير الشخصية المحورية.
وفيما تبدو هيباثيا في حلقتها الدراسية منشغلة بإيجاد تفسير منطقي لطبيعة النظام الشمسي، تمضي الجماعات الدينية المتطرفة في طريق غوغائي يدفعها إلى اجتثاث كل من يخالفها الرأي في أتون اشتداد الصراع المفتوح بين المسيحيين واليهود من جهة وبينهم وبين غير المؤمنين من جهة أخرى.
ومن مشهد الجدل الفسلفي والعلمي حول فرضيات موقع الأرض وحركتها ينقلنا المخرج إلى واقع فشل التصالح بين المتصارعين،انها لحظة مريرة تشبه إلى حد كبير صورة حاضرنا،حيث تندفع الحشود الغاضبة إلى مبنى مكتبة الاسنكدرية لتحطم وتحرق كل ما تجده من مخطوطات وتماثيل ومقتنيات وأبحاث وخرائط ثمينة .فيقدم الفيلم أروع مشاهده حينما يلتقط حركة الحشود المندفعة حال شروعها بتدمير أجلى منجزات العقل البشري،ليظهرها بشكل مقلوب في مشهد رمزي بليغ بدت فيه الرؤوس الساخطة أسفل الشاشة فيما تشابكت الأيادي العمياء بهمجية مريرة تشير إلى عالم بات مقلوبا حينما أوغل في تحطيم ثمرة اجتهاده العقلي.
في المقابل يلاحق الفيلم سلوك رئيس الأساقفة سيرول الذي يوظف جل دهائه في إقناع الآخرين بعدم استطاعة احد منع حشود المؤمنين الغاضبين أو حتى الوقوف بوجه مطالبهم التي تصل حد التنكيل باليهود المقيمين في الإسكندرية والذين ستتصف ردود فعلهم لاحقا بعنف مضاد.كما يجري التضييق على حرية التفكير والاعتقاد وتطلق من دور العبادة الدعوات إلى حشمة النساء وتحجيم دورهن في الحياة العامة ومن ثم محاربة كل من يمارس الهرطقة ويعادي الإيمان المسيحي.
***
يبدو تكرار صورة العنف التي تلازم حركة المنقادين بقوة عواطفهم الدينية،نظيرا حقيقيا لانتحار العقل بصفته الحضارية والذي غالبا ما يكون اضعف الممكنات البشرية ساعة اندلاع الصراعات الحاسمة. ما يهمنا في هذا الصراع هو ان اؤلئك الذين يتسببون بشرارة العنف والفوضى هم أنفسهم الذين يبتكرون تفاسير أهوائية لنصوص دينية أكثر اعتدالا واشد تسامحا،وعليه فان المخرج اذ يدين الجماعات المتطرفة أيا كانت،فانه يشير إلى خيانة تعاليم الأنبياء والمبشرين من قبل بعض الإتباع والمحرفين..وكان المسيح سمحا مع المرأة الزانية قائلا “من منكم بلا خطيئة فليرمها بحجز ..اذهبي بسلام”.
في قلب (اغورا) الكلمة التي تعني ميدان الحوار او العمل،تتسع الفوضى وتأخذ الجموع المسيحية بالبطش بالوثنين ومن ثم بالجماعات اليهودية التي تبادر هي الأخرى إلى ذات العنف تجاه المسيحيين.كما تفشل محاولات مجلس الحكومة في تهدئة الأوضاع وضبطها حيث تنحدر المدينة العظيمة إلى هاوية مؤسية تتجسد أخيرا في القبض على هيباثيا وسوقها إلى الإعدام بتحريض من الكهنة.
هكذا تكون الحشود الناشدة لعدالة سماوية هي المسؤولة عن رسم نهاية مأساوية لهيباثيا التي يتم اقتيادها بقسوة مذلة بعد أن يعجز جميع الأصدقاء عن حمايتها وتبني مواقفها المتحررة.حولها يتحلق جمع من الناقمين،يمزقون ثيابها بوحشية من يشتهي الجسد البض،فيبادر العبد ديفس وبدافع حبه العظيم لمعلمته ومعشوقته إلى خنق هيباثيا عسى ان يجنبها ذلك الم الموت غير الرحيم الذي ينتظرها.
تقول الروايات التاريخية ان جثة الفيلسوفة الاسكندرانية سحلت في شوارع المدينة وتلقت عشرات الطعنات في حفل دموي صمم لتحطيم الجسد المتمرد ونهب براءته عبر تقطيع أوصاله.هكذا تتحول الجماعة التي تدعي السعي إلى هداية الآخرين إلى مليشيا عقائدية تبطش بكل من يخالفها الرأي.
***
عشية عرض فيلمه الموسوم (اغورا) في الدورة 62 لمهرجان كان السينمائي 2009 قال المخرج اليخاندرو امنيبار “أردت ان يكون هذا الفيلم رسالة في أهمية التسامح.. خاصة وأن الجميع اليوم يستخدم العنف في الدفاع عن معتقداته وأفكاره..”
من هنا يعد فيلم اغورا الذي كتبه ماثيو جيل بالاشتراك مع المخرج شهادة سينمائية جريئة تلمح بقوة إلى صورة عالمنا الراهن الذي تمزقه الخلافات والصراعات المذهبية والعرقية ويتراجع فيه صوت العقل والتسامح. ومن خلاله يضيف المخرج امنيبار انجازا آخر إلى سجل أدبياته السينمائية الرائعة (الآخرون،البحر في اعماقي) كما يدون فيه انحيازا عقلانيا مجردا إلى عالم هيباثيا،الإنسانة المفكرة التي خلدت دون قتلتها.