لم تستغرق رواية فرانسواز ساغان «صباح الخير أيها الحزن» (Bonjour Tristesse) سوى شهرين لتنال جائزة النقاد. فقد نُشِر النص الأصلي بالفرنسية في آذار 1954 ليشد سريعاً أنظار القراء وأسياد الأقلام الأدبية على السواء، وليدفع فوراً بالوكيل الأدبي لساغان، أن يتصل بالناشر البريطاني المرموق جون موراي فيقنعه بضرورة ترجمة العمل إلى الإنجليزية ونشره في أقرب وقت، قبل أن يحصد الجائزة في أيار من العام نفسه.
فرنسواز ساغان، كانت قد رسبت في ذلك العام، في امتحانات الدخول إلى جامعة السوربون، الأرجح بسبب انشغالها بتخليص روايتها الأولى، الأقرب في صيغتها إلى الـ«نوفيلا» أو الرواية القصيرة، إذ لا تتجاوز في حجمها المائة صفحة. هذا قبل أن يصبح اسمها النجم الأبرز في فلك الصحافة الأدبية ونمائم المثقفين المحافظين والأوساط الثرية عموماً في داخل المجتمع الفرنسي.
ولعل ما أسهم في الرواج السريع لروايتها بداية هو مكانتها العائلية وشبكة علاقاتها الشخصية. فوالدها رجل صناعي مرموق، له ارتباطاته الواسعة، كما أن صديقة عمر ساغان لم تكن سوى فلورنس مالرو (ستهديها ساغان روايتها الثانية «ابتسامة معينة»)، ابنة الروائي الكبير أندريه مالرو، والذي أصبح لاحقاً وزيراً للثقافة في حكومة شارل ديغول. لكن، مما لا شك فيه، هو أن «صباح الخير أيها الحزن» كانت بغنى تام عن كل هذا، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالرمزية التي تشتمل عليها، كونها رواية تتحدث عموماً بلسان شابة فرنسية من جيل جديد، جيل فرنسا الخارجة من الحرب العالمية الثانية، والمنهكة، التي تبحث عن موطئ قدم لها في العالم الجديد، وبالتالي يتحتم عليها إعادة النظر في سلطتها الكنسية والأبوية، وأعرافها الاجتماعية التي لم تقض عليها الحرب كلياً، فتسلّم بسلطة المثقف الجديد، المفكر، والذي قوامه سارتر وكامو وسيمون دوبوفوار، دون أن تقطع مع آخرين كباسكال وكانت وبروست.
شابة مراهقة
ساغان حين نشرت روايتها «صباح الخير أيها الحزن»، كانت في الثامنة عشرة من عمرها. لم يُنظر إليها في النهاية إلا بوصفها شابة مراهقة، تسير على الحبل الفاصل بين عالم الطفولة واللهو والأعراف الاجتماعية التي تحول دون متعها الجسدية، وبين عالم الرشد الذي هو العرف والحجة القانونية للاستقلالية الفردية كلياً. أضف إلى أنها تتحدر من عائلة فرنسية بورجوازية، هي كأغلب عائلات تلك الطبقة في ذلك الوقت، تميل إلى التكتم والرفعة والمحافظة ومسايرة النظم الفكرية والاجتماعية السائدة. عالمان تعيشهما أيضاً «سيسيل» بطلة «صباح الخير أيها الحزن»، التي نقرأ مثلاً أن عمرها سبعة عشر عاماً.
وجودية «سيسيل» هي الهاجس الذي يستفز الأحداث من حول هذه الشخصية. هي أولاً فتاة تعيش مع والدها «ريموند»، الثري والعاشق للنساء، والمحب لابنته الوحيدة أيضاً. تعيش معهما أيضاً عشيقته «إلسا»، ذات الشعر الأحمر، الجميلة واللعوب نوعاً ما. عند هذا الحد كل شيء يبدو رائقاً إلى أن يقرر «ريموند» أنه سيستضيف «آن» المرأة الأربعينية، الواثقة والمثقفة أيضاً، والتي تحمل دهاء فريداً يمكنها من بسط سيطرتها على المنزل كله وتخريب علاقة «سيسيل» بحبيبها العشريني «سيريل». من هنا، سنجد أن أن سيسيل تكشف عن شخصية جامحة، متطرفة، أنانية إلى حد ما، فهي من جهة ستسعى إلى التقرب أكثر من أبيها الأربعيني، وإرجاعه إلى السعادة التي كانت قائمة قبل مجيء «آن»، العشيقة التي ستبقى علاقتها بها غير مستقرة على المستوى النفسي، ومن جهة أخرى ستسعى وراء الحب إلا أنها ستخرج منه صفر اليدين، لتكتفي بالانغماس في ملذاته الجسدية مع «سيريل». لا يعني هذا أن نص الرواية يتضمن مقاطع عاطفية «حميمية» أو «إباحية»، فساغان توفر على نفسها الدخول هذا الابتذال على المستوى المشهدي.
في هذين العالمين، تحاول «سيسيل» أن تتعرف إلى نفسها جيداً، كما لو أنها تريد الحصول على تجارب الحياة كاملة عبر هذه التجربة الواحدة والمعقدة. سنجد بأنها تنحاز إلى اللحظة التي تختبرها، وتعرف كيف تفسّرها وكيف تشرّح مشاعرها وقلقها وأفكارها مستفيدة من الفلاسفة والمفكرين الذين تقرأهم كباسكال، كانتْ، برغسون وسارتر. من دون أن يعني هذا انحيازها بشكل مطلق إلى أي من شخصيات العالم المتدخلة بها وبأبيها. فـ«آن»، «سيسيل» و«إلسا» لن يعود لهم أثر في النهاية، وكما ظهروا بقوة ثم تلاشوا، ستجد «سيسيل» نفسها منغمسة مجدداً في حفلة من الشخصيات والأسماء الجديدة، وعلاقات العشق، في مسار حياة مشابه كثيراً لما يعيشه والدها.
وعي روائي
حبكة «صباح الخير أيها الحزن»، والتي كانت قد صدرت قبل سنوات بطبعة عربية (ترجمة هلا فرحات، دار رشاد برس) قد لا تحمل أية لمعة استثنائية على الصعيد التجريبي. فلا نجد فيه أي ابتكار لسلوكيات مجنونة أو أحداث ضخمة أو مفارقات كبرى. كما لو أن ساغان أرادتْ أن تعيد معاينة هذه الشريحة المجتمعية ضمن العلاقة المستترة بين امرأتين («سيسيل» و«آن»)، الأولى «طائشة» والأخرى «ناضجة». هما لا تنتميان إلى جيلين مختلفين وحسب، بل تتجذران من نفس البيئة الاجتماعية، «البرجوازية» بامتياز. أكثر من ذلك، فإن كل شخصيات «صباح الخير أيها الحزن» تتحرك في محيط من الثراء والرفاه، تستفيد منه ساغان لتعرّضها لمساءلات فكرية، فلسفية، تحاكي اجتهادات سارتر وسيمون دو بوفوار حول فردية المرأة واستقلاليتها وأحقيتها في ترسيم نوع الحياة الذي تريد. وهو ما يجعل الرواية قابلة لأن تُقرأ من جديد، حتى وإن بدت فاقدة تأثيرها على إحداث صدمة «فضائحية» في فرنسا القرن الحادي والعشرين، عدا أنها تنتقد لاأخلاقيات المثقفين ربيبي الحرب العالمية الثانية والتقاليد، المتأنقين دوماً، كما تنتقد صورة أوروبا الجديدة الخارجة من الحرب العالمية الثانية، وشبابها التائه، والذي لا يحمل أية ركيزة فكرية ثابتة، كما لو أنها تريد الكتابة بوعي روائي مبكر، برمزية أيضاً وواقعية، معتمدة أسلوباً سيذكرنا، ونحن نقرأ الرواية، بالبطانات الفلسفية التي يتكل عليها ألبير كامو في روايته «الغريب» (l’Etranger) وهو يصف المحيط الجغرافي للشخصيات ويخبرنا عن نوازعها وعلاقتها بالقتل، الحدث الأساسي في العمل. وهو الحدث التي تتشاركه «صباح الخير أيها الحزن» وإن في سياق اجتماعي ولظروف مختلفة كلياً عما هو الأمر في «الغريب».
فرنسواز ساغان، والتي استعارت اسمها الأدبي من إحدى شخصيات بروست «أميرة ساغان»، اسمها الحقيقي هو فرانسواز كويريز، وعندما أنجزت روايتها، لم تكن تجاوزت بعد الثامنة عشرة من العمر. أما ناشرها البريطاني الأول، جون موراي، والذي لم يكن يحبذ نشر أعمال روائية مترجمة، فقد اقتنع بضرورة القيام بالأمر بعد أن ورده ملخص الرواية عن طريق المترجمة إيرين آش والتي سيكلفها موراي بالاتفاق مع ناشر أميركي هو دوتّون، القيام بنقل الرواية إلى اللغة الإنجليزية. لتصدر الرواية في العام التالي (1955) في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ناقصة بعضاً من أجزائها، بما في ذلك حوارات ومشاهد «فاضحة» وتفسيرات للحب اعتبرتها آش «غير ضرورية». آش، حينذاك، لم تتصرف كمترجمة وحسب، بل آثرت أن تغرز أصابعها في جلد النص الفرنسي، وأن تستأصل منه ما بدا لها غير ملائم للجمهور البريطاني عموماً، الذي كان معروفاً بميوله الأدبية المحافظة، وتأثره عموماً بالكنيسة والتعاليم المَلَكية. وعلى الرغم من انتهاكات آش للنص الأصلي، فإن الصحافة احتفت بالطبعة الإنجليزية عموماً وبترجمته الأنيقة، والتي استطاعت أن تعكس الطبقة الاجتماعية التي تتحدث عنها ساغان، وتعابيرها وحواراتها، غير أن بعض النقاد اعتبر أن ثمة ما يشير في النص الإنجليزي إلى أن آش استعملت «قلمها الأزرق» ما يعني أنها سمحت لنفسها أيضاً بأن تكون المحررة والمنقّحة لأسلوب ساغان الأدبي. إلا أن ذلك لم يكن كافياً ليحدث فضيحة، أو ليعيد النظر بالترجمة وإرجاع الأجزاء المفقودة، والتي حين يطالعها القارئ اليوم، لن يجد فيها أي مشهد مبالغ في «فضائحيته» أو «استفزازيته» على أي مستوى. مع ذلك، فإن الناشر الأميركي دوتون، وعلى عكس شريكه الإنجليزي مواري، آثر ألا يكلّف آش ترجمة رواية ساغان الثانية «ابتسامة معينة». وهو العنوان الذي حاولت آش أن تحوله إلى «طريقة في التبسم» لولا تدخل ساغان الذي حسم الأمر.
هذا المجد الذي لاقته الرواية لم تدنُ منه سوى روايتها القصيرة الثانية «ابتسامة معينة» (Un Certain Sourire)، والتي صدرت في العام نفسه (1954). والتي لم تخرج فيها ساغان عن بعض ملامح «صباح الخير أيها الحزن»، فالأم أيضاً مفقودة، كما أن شبح الخيانات والعلاقات العاطفية الإشكالية والمهددة موجود، إضافة إلى تأرجح مشاعر الأب وميوله، والملل ورتابة الحياة الجميلة. أما ما أنجزته من روايات أخرى، فظل دون ألق باكورتها «صباح الخير أيها الحزن» والذي لم يعاد النظر في ترجمتها كاملة إلا بعد موت ساغان عام 2004 ليصدر اليوم بطبعته الكاملة بالإنجليزية بقلم هيذر لويد. قيل إن ذلك الفشل الروائي الذي رافق ساغان خلال حياتها، سبب لها انهياراً دائماً على الصعيد الاجتماعي والنفسي. إذ عرف عنها أنها تحولت مع السنين إلى امرأة تراجيدية، سكيرة، متشائمة وبائسة، عاشت الكثير من الفضائح، لكن أياً منها لم يستطع أن يمدها بموضوع تصنع فيه نجاحاً يوازي ذاك الذي خرجت به، والذي ظل أثمن ما لديها من تذكارات طفولتها.
رواية «صباح الخير..» تتحدث بلسان شابة من جيل فرنسا الخارجة من الحرب العالمية الثانية والمنهكة
——–
الاتحاد