فيرغسون:حياتنا العامة يلوّنها سيل إساءات


فاتن صبح


«يتعلق الناس ببعض الروايات، وتعتبر الرواية التي تصف وزير خارجية أميركا الأسبق هنري كيسنغر، بأنه الأميركي الأكثر شراً، الذي عاش يوماً نوعاً من الرواية التي تثير اهتمام للناس، لا سيما أولئك الذين كانوا هنا عام 1968، أو الذين برزوا في السبعينيات من القرن الفائت، وانبروا لمعارضة الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون في كل ما يفعل.

لذا، ليس مفاجئاً أن تأتي ردود أفعال الناس قوية أحياناً، إذا عارضت تلك الروايات، حيث يكون ذلك جزءاً من الموقف. لا أستمتع بهذا الجزء حتماً، ولا أعتقد أن أحداً يحب أن يُستغل، حتى ولو عبر تغريدات إلكترونية. لكن الحياة العامة على اختلاف أشكالها هذه الأيام، ترتبط بالضرورة بسيل من الإساءة. لذا، عليك المضي قدماً فيما تفعل، ولا تعر اهتماماً كبيراً للباقي».
في هذه الأجواء، يستعد المؤرخ والمعلق اليميني نيال فيرغسون، للإجابة عن عدد من القضايا، التي حاورته فيها صحيفة «غارديان» البريطانية، بما في ذلك منتقديه، الذي يقول «إنهم منخرطون في سعي أقرب إلى التجرد من المبادئ الأخلاقية وعدم النزاهة»…
وباراك أوباما، الذي يعتبر «أن عهده الرئاسي لم يحرز نجاحات هامة»، وكل من يهاجم آراءه بالقول «إن هناك نوعاً من الحواسيب الشخصية من الجيل الثاني، ممن وجدوا طريقاً لتمكين أنفسهم، من خلال السعي بالاستقواء بالشرطة، بطرق تذكرني أحياناً بالثورة الثقافية في الصين».
إلا أن انطلاقة فيرغسون الكلامية، تنحسر عند السؤال عن محاور حياته الشخصية، ويروي مسلسل مسيرته التعليمية، بعد نيل شهادة دكتوراه في التاريخ الألماني بالتالي: «كنت أستاذاً في كامبريدج لثلاث سنوات، وفي أكسفورد طوال عشر سنوات، شعرت بالضجر، وأتيت إلى هنا. هذا كل شيء».
موقف
صدر لفيرغسون حديثاً، كتاب من ألف صفحة، يحكي السيرة الذاتية المعتمدة لهنري كيسنغر. ويغطي أول المجلدين، الحقبة الممتدة من عام 1923 وحتى 1968، ويحمل عنواناً فرعياً: «المثالية».
حظي فيرغسون بوصول غير مسبوق إلى أوراق كيسنغر الخاصة، ويجادل بأن هنري كيسنغر، وزير خارجية الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، أسيء فهمه لسنوات، واعتبر رجلاً واقعياً مكيافيلياً مهووساً بالحصول على السلطة بأي ثمن، وبأن صيته الحقيقي يستتر خلف قناع من «عدائية عميقة» تتراوح بين«النقد اللاذع» الصرف و«الجنون المطبق».
أسس فيرغسون لمسيرة مهنية مبنية على كثرة الشجار، وحاول في عشرات الكتب وأعداد الأعمدة الصحافية اللا متناهية، تهديم بعض المفاهيم التاريخية المحددة القائمة، ووصلت إلى حدّ عدم التوافق مع نيال فيرغسون الكاتب نفسه، ومؤلفه الجديد، بالأسلوب ذاته.
وبما أن كتاب فيرغسون تختتم أحداثه عند عام 1968، فليس هناك أدنى ذكر للجدليات الكبرى المحيطة بكيسنغر، بما في ذلك تفجير كمبوديا الذي أودى بحياة أكثر من 100 ألف قتيل. لم يشأ فيرغسون التحدث في الأمر، إلا أن الجزء الأول من سيرته الذاتية، يوفر العديد من الفرص للكاتب لإعادة التفكير في الأمر.

اللقاء الأول
اتسم وصف فيرغسون للمرة الأولى، التي التقى فيها نيكسون الدبلوماسي، واختصاصي العلوم السياسية، بالجدية والسخرية، ويجدر سرده بإسهاب: «اللقاء الأول لي مع كيسنغر، كان في لندن، في حفل أقامه كونراد بلاك. وكنت متشحاً بأكسفورد حينها، ومخضباً بالصحافة..
وكان من الطبيعي أن أشعر بالإطراء حين يعرب رجل دولة متمرس عن إعجابه بكتاب وضعته حول الحرب العالمية الأولى. وتأثرت أيضاً بسرعة إغفاله لوجودي أصلاً لحظة دخلت العارضة إيل ماكفيرسون قاعة الحفل».
يتعلق الجزء الأبرز من مراجعات فيرغسون التاريخية، بالادعاء الذي ظهر للمرة الأولى في كتاب سيمور هيرش عام 1983 بعنوان «ثمن السلطة»، حيث زعم فيه أن كيسنجر سرّب معلومات سرية إلى حملة نيكسون حول محادثات سلام باريس التي أجرتها إدارة جونسون عام 1968 مع شمالي فيتنام.
لم ينكر فيرغسون تطفل كيسنغر، إلا أنه أعاد تفسيره والتبرير بأن معرفة كيسنغر بالمحادثات كانت مبهمة، وأنه لم يكن وارداً توقيع اتفاق السلام الدائم أصلاً، لو اكتفى كيسنغر بالمراقبة من بعيد. وهو رأي خالفه فيه هيرش وهيتشنز وآخرون.

2009
تعرض فيرغسون عام 2009 لانتقاد واسع النطاق، حين شبّه أوباما بالقط الأبيض والأسود «فيليكس»، في مقال له في صحيفة «فاينانشال تايمز» الأميركية. وأما التهمة الأكثر اتساقاً التي يوجهها منتقصو قيمة فيرغسون، فهي أنه يخلط في الحقائق الأساسية في عمله، حيث عنونت مدونة مركز الأبحاث السياسية والاقتصادية، إحدى مقالاتها: «نيال فيرغسون يستعرض جهله في عالم الاقتصاد».
ويتخذ الدفاع عن النفس لدى فيرغسون أشكالاً تتنوع بين القول إن متهميه لم يقرؤوا أعماله، أو لم يقرؤوها بتمعن، أو يغفل الاتهامات، باعتبارها مجرد مواقف منحازة. وكان، كما كيسنغر، محط غضب كثيرين دفعه لابتداع عبارة «الصوابية السياسية»، كدفاع شامل عرفه على أنه محاولة «لتقويض جدال غير قابل للدحض، بالادعاء علناً، وبشكل متكرر، عن وجود خطأ فيه».
«كيسنغر المثالي» رواية في الأدب السياسي
لم يحظ أي رجل دولة أميركي، بكم الاحترام والشتيمة، كما هنري كيسنغر. إلا أن نيال فيرغسون يظهر في هذه السيرة الذاتية: كتابه: «كيسنغر: المثالي 1923-1968»، أن الفكرة المتعلقة بأنه سياسي واقعي ماكر عديم الرحمة، قد بنيت على سوء فهم عميق.
يستقي فيرغسون من المذكرات والرسائل والأوراق الشخصية وأرشيف من حول العالم، لوضع مجلده الأول الغني المفصل للسنوات الخمس والأربعين الأولى من حياة كيسنغر، والذي يتطرق فيه إلى إنجازاته العظمى قبل تعيينه مستشاراً الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون.
ويروي كتاب «كيسنغر: المثالي 1923-1968»، قصة المفكر الاستراتيجي الأهم والأوحد الذي أنتجته أميركا، إنه نوع من الأدب السياسي الذي يسلط ضوءاً ساطعاً على حقبة كاملة من الزمن، ويشكل توثيقاً لحياة غير عادية، ويعيد سبك أحداث الحرب الباردة.
أمر مذهل
ويصر فيرغسون على أن كيسنغر ليس بالسياسي الخارجي «الواقعي» عديم الرحمة، الذي لا يفكر إلا في المصلحة القومية، والمستعد لجعل السلطة غايةً بحد ذاتها. كان مثالياً يؤمن بأن القيم بما تتضمنه من حرية وتصميم ذاتي، تستحق المحاربة لأجلها.
ويشكل تحليل فيرغسون لـ «تعلم كيسنغر من خلال التجربة» أمراً مذهلاً. وتزخر السيرة الذاتية بحكم من معلمي كيسنغر ومديريه، من أمثال أستاذ جامعة هارفرد وليام إليوت، ونلسون روكفيلر حاكم نيويورك.
وكتب فيرغسون يقول، إن كيسنغر كان يتعلم شيئاً عن السياسة الخارجية في كل مرحلة، وكانت النزعة المتكررة التي طبعت حياته، تشير إلى أن الخيارات الأكثر استراتيجية، هي تلك التي تتخذ في «حالات بالغة الغموض»، أو في ظل شرور ممكنة أو قائمة، وربما تتوافق في ما بينها أو لا، وتستدعي بالضرورة الإعلان عن نية بالتصرف «للحفاظ على الأقل بالحد الأدنى من توازن القوى».
ويقتطع فيرغسون من سلطة السيرة الذاتية، بالإقدام مجاناً على إهانة بعض معاصري كيسنغر، متهماً الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي مثلاً بـ «المخادع التام».
وعلى الرغم من أن الكتاب طويل، وأن كيسنغر كان قد انضم لإدارة نيكسون مع نهايته، إلا أن نوعية المادة المعلن عنها، تبرر الإطالة والاستفاضة في التفاصيل.
رسالة ومفاجأة
يشكل العنوان الفرعي للكتاب، مفاجأة للعديد ممن ارتبط اسم كيسنغر لديهم بالسياسة الواقعية الحديثة، وممن قرؤوا روايات تحريفية تساويه بميكافياللي وبيسمارك، ومفكرين آخرين، ورجال دولة بعيدين عن المثالية.
ولا شك أن سمعة كيسنغر كانت تحتاج للدفاع، لا سيما في أوساط قدامى اليسار الأميركي.. وغيره، حيث يظل شخصية مكروهة أكثر ربما من رئيسه نيكسون. ولعل السبب في ذلك، يعود إلى أنه كان أكثر حذاقة من نيكسون، الذي لم يرَ فيه المفكرون أملاً، بينما كانوا يتوقعون المزيد دوماً من كيسنغر، الأكاديمي اللامع.
وتعالج بداية الكتاب، بأسلوب رشيق، قضية التوافق والتعارض، لتبعدها بشكل أساسي من الطريق، حيث يختار فيرغسون، مزاعم بعض أكثر منتقدي كيسنغر خداعاً وذعراً، ويربط ما بين جرائمه المزعومة وحالات الارتياع من الاتحاد السوفييتي. فيخرج كيسنغر من المعادلة ملمع الصورة باهر الصيت.
وتدل الرسالة من وراء ذلك، إلى أن كيسنغر كان عرضة لسوء الفهم المتكرر وشبه التام، ليس من معجبيه على الأقل، الذين يتصور غالبيتهم أنه كان خائفاً من تجربة أنه يهودي في ألمانيا النازية، ويعتقدون أن أول اختبارين له للطغيان النازي وللحرب العالمية الثانية، حولاه إلى أحد زعماء السياسة الواقعية. إنه مثالي مرغم بحكم التجربة لأن يصبح واقعياً.
مدار جديد
برز كيسنغر على الساحة، بينما كان لا يزال أستاذاً مساعداً، وصفته الراديكالية لكيفية مفهوم ضعف أميركا النسبي في مواجهة الاتحاد السوفييتي، بالتزامن مع إطلاق القمر الصناعي الفضائي «سبوتنيك» عام 1957، الذي عمل على حد وصف فيرغسون «على إطلاق كيسنغر في مدار جديد».
كان فيرغسون مقنعاً حتماً في إظهار كيسنغر الشاب كرجل مبادئ وأفكار، مستفيداً من اطلاعه على الكم الهائل من الأوراق السرية. ويعفي حجم النقد الوارد في الكتاب اللاذع بمعظمه، فيرغسون من تهمة تبييض صفحة كيسنغر.. وتمنح امتداحه الرجل مصداقيةً أكبر.
شذرات
نيال فيرغسون. مؤرخ بريطاني ولد في إسكتلندا في أبريل 1964. عمل أستاذاً محاضراً في جامعات أكسفورد وهارفرد وستانفورد. متخصص في التاريخ العالمي وتاريخ الاقتصاد، لا سيما مسائل فرط التضخم وأسواق الأسهم، والإمبريالية الأميركية والبريطانية.
كما أنه معروف بآرائه الاستفزازية المعارضة. تتضمن لائحة كتب فيرغسون الطويلة، عناوين كثيرة، أبرزها: الإمبراطورية: كيف صنعت بريطانيا العالم الحديث؟، صعود المال: التاريخ المالي للعالم، الحضارة: الغرب والآخرون. وعرضا كسلسلتين تلفزيونيتين على القناة الرابعة.
أما أحدث مؤلفاته، فبعنوان «كيسنغر 1923-1968: المثالية». أدرجته صحيفة «تايمز» البريطانية عام 2004، من ضمن الأشخاص الـ 100 الأقوى تأثيراً في العالم.. كما أنه معروف بموقفه الناقد للرئيس الأميركي باراك أوباما.
——-
البيان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *