رموز الشعر الفارسي الحديث .. سهراب سبهري (1)




علي عبيدات*


خاص ( ثقافات )
رؤى التجديد
شعر الحقبة القاجارية:
عرف الشعر الفارسي في القرن التاسع عشر بشعر المرحلة القاجارية كما في كل الأمم التي تقسم عصورها وفق النظام السياسي الحاكم، وكان شعراء الحقبة القاجارية يطمحون إلى التجديد والانفصال عن السابقين أمثال فحول الشعر الفارسي سعدي الشيرازي والفردوسي، فكان شعر هذه المرحلة تحت عباءة القدماء ولا جديد فيه، فقاموا بتعديلات طفيفة على القوالب والمضامين الشعرية كالمدح والغزل، لكن لم يكونوا أمام مشروع تجديدي ناضج وبقيت المحاولات تماماً كالشعر الذي حاولوا أن يطوروه دون فائدة، ومن أبرز شعراء هذه الحقبة (قآني الشيرازي /فتح علي خان الكاشاني/ نشاط الأصفهاني/ الميرزا عباس).
شعر الثورة الدستورية:
انقضى عهد القاجاريين وجاءت مرحلة شبه مفصلية في بدايتها ومفصليّة بصورة صادمة بعد بواكير أهلها وحضور الرائد الكبير للشعر الفارسي نيما يوشيج، واختلط شعر هذه المرحلة بالنزق الثوري والرؤى التجديدية، وعادت محاولة خلع عباءة الشعر القديم ومحاولة قلب الشعر رأساً على عقب كما حدث على صعيد نظام الحكم بعد انتفاض الإيرانيين بين حكم مظفر الدين شاه ورضا شاه بهلوي، وبدافع المناخ الثوري السائد وقتذآك، امتزج الشعر بالعامة وتألقت المطابع والصحف بالشعر والأدب والمقالات، وصار الشعر بطابع إعلامي وجاءت أساليب شعرية جديدة كالقوالب الشعرية المستحدثة ، وساد القصيدة حديث عن الحرية والعدل والمساوة بسهولة الألفاظ والتراكيب، وتغير الشكل دون المضمون، ومن أبرز شعراء هذه المرحلة (إيرج ميرزا / عارف قزويني / ملك الشعراء بهار / عشقي / نسيم الشمال).
الشعر النيميائي:
جاء تجديد الشعر الفارسي الحقيقي والمكتمل مع نيما يوشيج (علي أسفندياري 1897-1959) محملاً بالنزق اللغوي والثقافة الفارسية الممزوجة بالفرنسية، وكان كل هذا بمجيء نيما ابن منطقة “يوش” التابعة لإقليم مازندران في إيران، فهناك اكتمل مخاض القصيدة الحديثة وجاء بها فتى متأمل قلب الدنيا في طهران قبل أن يصلها.
سعى نيما إلى تجديد الشعر الفارسي برمّته، فأصدر مجموعته الشعرية الأولى عام 1921 بعنوان (قصة بلون شاحب) وكان عمره حينها 23 عاماً، ثم كتب (أيها الليل) في عام 1922 بصيغة حداثية على نهج معاصريه، ثم كتب ملحمة الشعر الفارسي الحديث بعنوان (الأسطورة) ونشرها في أعداد متتابعة في مجلة “القرن العشرين” المشهورة ، كتب بأوزان ورموز وبناء ومضامين وأسلوبيّة جديدة لم يألفها الشعر الفارسي مكتملة على هذا النحو، وكانت أول قصيدة في الشعر الفارسي الحر، وأرسى بها دعائم الشعر الفارسي الحديث ليتقفى الشعراء أثره، وكان بهذا بدر شاكر السياب إيران في مراحل مبكرة، ومن رواد الشعر الفارسي الحديث بعد خطوة نيما الأولى ( فريدون مشيري /هوشنك ابتهاج /سياوش مشيري /نصرت رحماني /فروغ فرخزاد / مهدي أخوان ثالث / يد الله رؤيايي / وسهراب سبهري).
سهراب سبهري (شاعر مزج الحواس)
ولد سهراب سبهري (1928-1980) في مدينة كاشان الإيرانية، لعائلة محبة للفن ومحسوبة على الأسر النجيبة (أرستقراطيّة)، ويعد سهراب عموداً من أعمدة الشعر الفارسي الحديث، الذي أسسه رائد الشعر الحديث في إيران نيما يوشيج عندما أرسى دعائم الحداثة هناك على صعيد الوزن والمضمون، وكذلك الصوت المتمرد الذي صدحت به الشاعر الإيرانية فروغ فرخ زاد والشاعر الشاب والمجدد أحمد شاملو الذي خرج بنثره عن المألوف، ولن ننسى قطب الحماسة وشاعر إحياء القديم بطريقة جديدة مهدى أخوان ثالث الذي جعل من حماسة شاعر الفرس الأكبر الفردوسي شعراً سائغاً ومقبولاً في عصر الحداثة الذي تلألأت فيه أسماء هذه القامات الكبيرة، والتي اكتملت بسورياليّة سهراب سبهري وصوفيته الخاصة والقريبة من طابع شعر الهايكو الآسيوي، فتراه قد مزج بين صوفية الشرق والغرب ليخرج لنا بتياره الخاص وتصوفه السوريالي العميق.
ليلة باردة
لَيْلَةٌ بَاْرِدَةٌ وَأَنَاْ مُنْهَاْرٌ
الطَّرِيْقُ بَعِيْدَةٌ
قَدَمِي مُتْعَبَةٌ
وهَاْ هُنَاْ ظُلَمُةٌ ومِصْباحٌ مَيِّتٌ،
أَعْبُرُ الطَّرِيْقَ وَحِيْدَاً
واَلخَلْقُ بَعِيْدُوْنَ عَنِّيْ
درس سهراب في كلية الفنون الجميلة وتخرج فيها، فكان رساماً وشاعراً ذائع الصيت ومعروفا في الصالونات الأدبية الإيرانية التي لم يكن يكترث لها، فلم يكن يأبه للأضواء ويفضل التكهف والإنزواء، ولعل هذا ما جعله أكثر شهرة، سيما أنه كان يعيش حياة غريبة وبطريقة أغرب، فلم يتزوج طيلة حياته، ولم يحدث أن تداول الإيرانيون قصصاً غراميّة تخصه، فقد كان سجيناً في عالم الحرية الذي ابتكره وعاش فيه وعبر عنه شعره المتشح بهويته الخاصة وأسلوبيته التي لم يألفها القارئ من قبل.
أعودُ من رفقة الظل
فأين الشمس؟
أتقن سهراب غير لغة: الفرنسية، الإسبانية، العربية، الإنجليزية، وكان قارئاً نهماً وغارقاً بالتصوف وعوالم الحدوس والهدأة والبحث عن اليقين، وقد استفاد من التشخيص والإنزياح ومزج الحواس أيما استفادة، فتكاد لا تخلو قصائده من الماء والخضرة والطبيعة والنسيم والصباح، مما ميزه عن غيره وجعله يجلس في ركنه الخاص الذي أوجده ولم يقترب أحد منه.
لماذ لا يعلمُ الناس
أن زهرة “أبوخنجر” ليست مصادفة!
ألا يعلمون بأن في عيني طائر الذعرة الحالي
ثمة بريق لمياه شاطئ الأمس؟
لماذا لا يعلم الناس
بأن الهواء بارد في الأزهار المستحيلة؟
هاجم بعض النقاد سهراب لأنه ابتعد عن الواقع، فقد كان بعيداً عن المُعاش وغريقاً في المُتخيل، فلم يتحدث مثلاً عن الثورة الإسلامية التي عاصرها في آخر حياته، ولم نرى في شعره حدثاً يخص الواقع والمحيط كما كنا نرى في شعر مهدي أخوان ثالث كمعاصر له، وربما تحدث سهراب عن الواقع الذي انفصل عنه دون أن ندري -لا ندري حتى اليوم- فصعوبة شعره لا تمكن أكبر النقاد من تأويل اسقاطّاته تأويلاً يمكن له أن ينطبق على واقع محدد عبر الدلالة والرمز. لكن يبقى التساؤل قائماً حتى يجيبنا عليه أحد، فربما يُكتشف ما ورآء شعره بعد حين، فعالم سهراب الشعري عميقٌ حد العُمق ولا يمكن التنبؤ بدلالاته بتأويل واحد وحتميّة مُطلقة.
دوي الثلج، خيوط الفُرجة، قطرات الوقت
النضارة تكسو اللُبنة وعِظام النهار
ماذا نريدُ؟
بوسع قارئ القصيدة السهرابية أن يلمح اتجاهات فلسفية أسسها هو وأرسى دعائمها كما يريد وكما يتماشى مع نفسه وشاعريته الممزوجة بثقافته الواسعة وعوالمه الصوفية، ومن هذا انزوائه عن الآخر (تكهفه) كما في ديوانه “ما هيچ ما نگاه” (نحن لا شيء نحن نظرة) أو ديوانه “صداى باى آب” (صوت وقع أقدام الماء). لنرى سهراب يتنصل من الآخر وتكلله هالة السعادة بينما هو في ذروة الحزن، تماماً كمولانا جلال الدين الرومي، ليكون محزوناً في قفا من يدعي السعادة، وهذا أيضاً أسبغ عليه من الخصوصية ما يجعله سهراباً واحداً وشاعرا ذو طريقة يتيمة لم يأت بها أحد.
رمى عابرُ السَبيلِ غُصْنَّ نورٍ مِنْ شَفّتِهِ في ظُلّمَةِ الرِمَال
وأشَاْرَّ بإصبّعِهِ لشَجَرَّةِ الحُورِ وقال:
لِتّصِلَّ إلى الشَجَرَّة
ثمّةَ حَديقَةٌ صغيرة أكثَرَّ اخْضِرَاراً مِنْ نَومِ الله
وفِيهّا العِشقُ أزرقٌ كَأجنِحّةِ الصِدق،
دون أن يشعر القارئ، ودون تفكير مسبق أو صورة ذهنية سابقة الأخذ، يجد نفسه بين حنايا قصائد فيها من الرسم والموسيقى والفلسفة ما يجلعه على إيمان تام بأنه يقرأ شعرا من هذا النوع للمرة الأولى، وأن انطباعه المعكوس في هذا الصدد ليس له أي تآلفات وتقابلات سابقة، فهذا الفضاء الإنساني والعاطفي يشعرك بأنك لا تقرأ القصيدة بقدر ما ترافقها بكل ما فيها من هسيس وعلو وماء وألوان وما إلى تلك الأبعاد الرومانسية في شعر لا يمكن أن يكون رومانسياً فقط وذو اتجاه وجداني كغيره، فحتى استبطانه وغرقه في الحديث عن ذاته ما هو الا انعكاس لما رآه في غيره، فأن يتحدث عن نور قلبه مثلاً فهو يود الحديث عن نور كل البشر في عالم السلام والسكينة الذي ما فارق مخاديف عالمه الشعري.
لأن لا نعكرَّ الماء
لعل حمامةً تردُ الماء في بعدٍ
أو عندليبٌ يغسل أجنحتهُ في قرية بعيدة
ولربما تملءُ خابيةُ في قرية ما
نال سهراب شهرة لم ينلها شاعر إيراني قبله، وظل رساماً وشاعراً حتى وفاته، كما سافر إلى بلدان كثيرة أهمها الشرق الذي كان مفتوناً به، وأقام الكثير من المعارض الفنية على مستوى إيران والعالم بالإضافة إلى إرثه الشعري الكبير الذي تركه لقراء شعره وعشاق نمطه وأسلوبيته الفريدة. ومات سهراب في 1980 أثر اصابته بمرض السرطان.
جيران النهر يدركون جوهر الماء
وما عكروا صفوه
فحريٌ بنا أن لا نعكره
__________
*شاعر ومترجم من الأردن.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *