التراث الحساني بعيون مختلفة




د. بوزيد الغلى

خاص ( ثقافات )
ليس يخفى ما لِصوْن وتثمين تراث الشعوب من أهمية بالغة في الجَسْر بين الأجيال والتواصل بين المجموعات البشرية على قاعدة مبدأ قبول الآخر المختلف من حيث هويته الثقافية، وقد استشعرت اليونسكو خطورة عوارض الحروب والإهمال والنسيان على مستقبل التراث العالمي، فأصدرت الاتفاقية الشهيرة المتعلقة بصون التراث المادي وغير المادي عام 2003. ورغم أن الاتفاقية سعت إلى توحيد وجهات النظر أو تقريبها، فإن تنوع مصادر المصطلح المتعلق بالتراث والثقافة الشعبية، لا يزال يرخي ظلالَه على “الجهاز المفاهيمي” l’appareil notionnel، إذ تُستعمل مصطلحات مختلفة للدلالة على الموضوع نفسه من قبيل: التراث الشعبي، الثقافة الشعبية، الفلكلور، المأثور الشعبي…
وإذا جاوزنا عتبة تداخل مفاهيم التراث والثقافة الشعبية والفلكلور الذي ارتأت جهات أكاديمية ترجمةً له بـ”المأثور الشعبي”، جاز لنا الانتقال إلى تناول التراث الشعبي الحساني منظوراً إليه “بنظارات مختلفة” ومن زوايا متباينة، وذلك وفق الترتيب الآتي:


1-التراث الشعبي الحساني في مرآة الفقه الاسلامي.
2-التراث الحساني في مرآة الآخر الغربي:
3- التراث الحساني في مرآة مكنز التراث الشعبي المغربي.
4- التراث الحساني في مرآة المنجز الشعري الحساني الراهن.

1-التراث الحساني في مرآة الفقه الإسلامي:
لا جدال في أن بعض علماء الصحراء الأوائل قد استفرغوا طوْلهَم للبحث عن أحكام للنوازل التي عُرضت عليهم أو عَمّت بها البلوى، ومن المفيد للغاية التنبه إلى ما ينطوي عليه فقه النوازل من تاريخ اجتماعي متلبّس بالعادة والعرف، وفي انتظار دراسة مفصلة تستخرج دفائن النوازل الصحراوية على غرار ما فعله الدكتور الموريتاني يحيى ولد البراء، فإن الشيخ محمد المامي قد ترك لنا كتاباً هاما في الفقه وأصوله، تضمن إجابات كثيرة عن أحوال أهل البادية، فضلاً عن ديوانه الجليل الذي بسّط فيه للناهل من علمه أحكام الفقه الاسلامي بلغة بني حسان.
لقد كان الشيخ محمد المامي سبّاقاً إلى الاجتهاد والاستمداد من أصول المذهب المالكي، ما يستخرج به الأحكام لبدو الصحراء، فاستعاض عن مصطلح “بلاد السيبة” ذي المقادح الأخلاقية ببلاد الفترة المقتبس من مرجعية فتور الوحي التي قاس عليها فتور السلطة، وما ينجم عنه من تعطل الأحكام العامة وجريان الأحكام على سبيل الاستثناء كما فيما أورده عن ردّ آَلاي (آلاي هو المال المنتزع عنوة ومكابرة) نقلاً عن نوازل ابن الأعمش. ومن الطريف والهام، أن الشيخ محمد المامي قد أدرج فتاواه حول بعض الألعاب الشعبية والعوائد الاجتماعية كالفسخة تحت ما سمّاه ” بلَّنْتِ” إشارةً إلى كونه من صغائر الأمور لا من عظائمها حيث قال: «ثم درجنا إلى «بلّنتِ»، وهي النملة الحمراء بالبربرية، وذلك (مثل)… دمْراوْ و«هيب» وثَقب الأذنين للأخراص و« وَنْكالَ» واللعب بالبنات « والفسخَ»…. و«شرب الدخان»، وغير ذلك من «بلّنت»… و إني ذهبت إلى التحليل في جميعها،…. والداعي إلى هذا أمران: أحدهما عدم وجود النصوص الدالة على الأحوال، والثاني التسهيل على هذه الطائفة من الأمة التي ألجأتها الضرورة إلى التبدي” .1

2- التراث الحساني في مرآة الآخر الغربي:
ليس يخفى اهتمام المستعربين من ضباط الشؤون الأهلية الفرنسيين والإسبان بجمع وتدوين وتوثيق حياة البيضان وتراثهم وثقافتهم الشعبية، ويكفي أن نتصفح مرجعا هاما عن “فنون وعادات البيضان للباحثة الفرنسية Du PuigaudeauOdette، لندرك همّة الآخر الغربي الذي جاء إلى الصحراء مستطلعاً خادماً “لأجِندات” توسعية، وانتهى عاشقاً لها ولأهلها، فقد دونت أدويت بدقة كثيراً من تراث البيضان من حلي وملابس ووزينة المرأة البيضانية التي لم يبق اليوم من شاهدةٍ عليها سوى تلك الرسوم الرائعة التي خلدتها هذه الباحثة القديرة. والتراث الحساني بشكل عام مدين بالفضل للآخر الأوروبي الذي ساقته الدهشة والرغبة في الاستمتاع بالغرابة إلى السؤال عن كل شيء من أجل معرفة كل شيء، صحيح أنهم كانوا يطبقون عملياً مبدأ السيطرة بالمعرفة، إذ إن المعرفة سلطة (savoir pour pouvoir، لكنهم في الواقع تركوا نفائسَ أنقذت كثيراً من تراث الصحراء من الضياع، بالارتقاء به من قاع الشفاهية إلى قمم الكتابية، ولولا أن فانسان منصور مونتاي قد وضع ما يصح وصفه بمعجم المعاني الخاص بالإبل (كتابه: Essai sur le chameau au SaharaOccidental)، لضاع الكثير من المفردات التي ضمّها معجمه، وضيّعها زمن الانتقال من البادية إلى الحاضرة. لقد أعجبني في دراسات الراحل مونطاي حفره الدائم من أجل معرفة أصول الكلمات والظواهر، ففي معرض كلامه عن المواسم مثلاً، نبه إلى شيوع مصطلح “امكّار” في الجنوب المغربي خلافاً لما هو عليه الحال في الشمال (الموسم)، مُرجعاً لفظة “أمكار” إلى فعل “نْموكُور” أي نجتمع بالأمازيغية se rencontrer.

3- التراث الحساني في مرآة مكنز التراث الشعبي المغربي.
أشرفت الدكتورة السعدية عزيزي على إصدار “مكنز التراث الشعبي المغربي”، وليس سرّاً أن المكنز تطلَّب جهوداً مضنية وفق ما عنّ لي من تصفح مضامينه وفحص منهجية الاشتغال التي صدَّر بها المؤلفون الكتابَ الهام الذي يعدّ أول مكنز يرى النور في المغرب، لكن الإشادة بالعمل لن تحجب عني رؤية بعض جوانب القصور القليلة فيما يختص بالمادة التراثية الحسانية، إذ وقع الباحثون في شيء من الخلط أحياناً نتيجة قلة الدراية باللسان الحساني، ففي الصفحة 349 من الكتاب نقرأ: لعبة “ليشارة”، والحال أنها تدعى “خبيط الشارة”، وغير خاف أنها كلمة ذات أصول عربية (شارة النصر علامته)، ويحمد للمكنز توثيقه لكثير من عوائد أهل الصحراء، ويكفي أن نذكر تعاريفه الدقيقة لألعاب من قبيل: خميسة، كبيبة، السيك، ظاما، الدومينو، دبلي… بالإضافة إلى توثيقه بعض فنون وأشكال الطبخ الصحراوي مثل: العيش، مريفيسة، الزميت، خبز الفطير، لبسيس، ولا أخفي أنه التبس عليَّ إدراج المكنز لما سماه: لخليع ضمن قائمة الطبخ الحساني (ص 361).

4- التراث الحساني في مرآة المنجز الشعري الحساني الراهن:
من الواجب التنويه بمسايرة المنجز الشعري الحساني الراهن للهبّة الكبيرة نحو صيانة الموروث الشعبي الحساني، والشاعر أكثر الكائنات تحسساً للخطر الذي يتهدد التراث الشفهي، إذ إنه يمثل ترجمان الفؤاد الشعبي ورسول الوعي الجمعي الواجف الخائف من ضياع تراثه الأصيل نتيجة مدّ العولمة الكاسح الذي أصاب في مقتل “حرفاً أصيلة” كنسج الخيام وصنع لوازم الخيل والخيالة… فضلاً عما أضاع ضعف التدوين من حكايات وأمثال… لقد بدا الأديب الشاعر لعتيك طالب بويا متأسفا ًغاية الأسف على انصراف المجتمع عن عاداته وهجرانه تقاليده:

مشينا ومشاو العادات///لْ طوالو عنها عينينا
يحَرِّ وابقينا تفْتات/// يا اللاّلي ما ابكَاها فينا

ويدعو محمد السويح إلى الاستمساك بعرى التقاليد والعادات التي تتخلّقُ منها لحمة الهوية:
عاداتك تَطربْ، رَدّْهَ/// اعْلَ لِبِغَيْتْ، وُدّْهَ
ياكْ اتَّمّْ اعْلَ شَدّْهَ/// لاَ يَرْشَ فيها كيْدكْ
تقاليدَكْ، ما حدّْهَ/// فَيْدَكْ نَخْتِيرْانْفِيدَكْ
تَمّْ اَلاّ حاكم بَيْدهَ///بَيْدَكْ وكْتبْ تمجيدك 

ويعتبر محمد اجغاغ الاهتمام بالتراث من صميم مهام الشباب:
نهضة ذا التراث اتْحانيك/// فيه شانك وفيه قدرك
يا الشباب ومَتْكُولا عليك/// ولْوَصّاك اعل امك حكركْ
منبهاً في الوقت ذاته على استثمار التراث في التماس أسباب النهضة والنماء:
والشعوب اليوم اتْرَقّات/// بالتراث ونهضَتْ ونْمتْ

ولا يسع المقام كل ما جادت به قرائح شعراء الصحراء، ولمن يريد الاستزادة أن يطلع على الدواوين المنشورة لشعراء بارزين مثل محمد الغيث اكين والطاهر اخنيبيلا ومحمد سالم باب الري الشاعر المفلق الذي قرأ علي قصيدة رائعة سماها بطاقة هوية تمنيت أن تجد طريقها إلى النشر كي تتاح دراستها والتعريف بمضامينها.


كتاب البادية ، الشيخ محمد المامي ابن البخاري’1206ه-1282ه ، زاوية الشيخ محمد
المامي، موريتانيا، الطبعة الأولى 2006، ص 198.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *