معركة الشعر الحديث


*شعبان يوسف

في أواسط الأربعينيات من القرن الماضي، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وراح الشرق العربي يجدِّد روحه ودماءه، كان نصيب الأدب والثقافة والشعر كبيراً ولافتاً في ذلك الوقت، ففي القاهرة كان نجيب محفوظ يؤسِّس لفن الرواية، وقد أصدر بالفعل رواياته الاجتماعية (زقاق المدق والقاهرة الجديدة والسراب وخان الخليلي، وغيرها من روايات وقصص قصيرة)، بالإضافة إلى اشتعال الحركة الوطنية والنزوع القوي للسعي نحو مستقبل مشرق وجديد.

وفي العراق ولبنان وسورية كان الشعر ينفض عن كاهله رتابة القرون السابقة، فكتب بدر شاكر السياب قصيدته «هل كان حباً»، وكتبت نازك الملائكة قصيدتها «الكوليرا»، وبدأت تسري في الروح العربية أشكال ومعانٍ جديدة في الشعر، وكانت القاهرة، كذلك، تشارك في هذا التجديد الشعري، ففي الخمسينيات أصدر الشاعر المجدِّد محمد صلاح الدين عبدالصبور ديوانه «الناس في بلادي»، مع مقدِّمة نقدية مستفيضة للناقد بدر الديب، وذلك عام 1957، وصدر الديوان في بيروت، كذلك صدر ديوان«مدينة بلا قلب»، وقدَّمه الناقد الشاب رجاء النقاش بدراسة طويلة، أوضح فيها الركائز التي تنبنى عليها حركة الشعر الحر، وذلك كان عام 1959. وفي بيروت صدرت مجلة «شعر»، وأشرف عليها الشعراء: يوسف الخال، وأنسي الحاج وأدونيس، وكانت مجلة شعر قفزة بعيدة المدى في مياه الثقافة العربية، ورغم أن القاهرة كانت تمور بحركة مؤثِّرة وفاعلة في مجال الشعر، إلا أن موجة العداء لهذه الحركة كانت قوية وشديدة الحضور على المستوى الرسمي، وكانت قامات ثقافية وفكرية تقف بالمرصاد للشعراء الجدد، وعلى رأس هؤلاء الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، الذي بدأحياته متمرِّداً على أمير الشعراء أحمد شوقي، وكتب فيه مطوَّلات نقدية لتخرجه من بيت الشعر تماماً، والجدير بالذكر أن قوة العقاد في تلك الفترة التي كان يمارس فيها جبروته على الشعراء الجدد في أنه لم يكن مُجَرَّداً من السلطة، بل كان مقرَّراً للجنة الشعر التي دأبت على استبعاد الشعراء الجدد، وكذلك استبعاد ونفي أشعارهم إلى لجنة النثر، وكان في صحبة العقاد فريق كبير من حرّاس العمود الشعري وتقاليده، ومنهم عزيز أباظة وصالح جودت، والعوضي الوكيل، وعامر بحيري، وغيرهم من شعراء متوسِّطي القيمة والموهبة، وكان يناصر هؤلاء الشعراء نقّاد ومفكِّرون كبار، وعلى رأسهم المفكِّر الدكتور زكي نجيب محمود الذي كتب- آنذاك- سلسلة دراسات ينتقد الحركة الشعرية الجديدة، ومنتصراً للشعراء التقليديين، وبعد أن خمدت نيران المعركة النقدية قليلاً، أرادت وزارة الثقافة المصرية أن تحدث قدراً من التوازن في الحياة الثقافية، فأصدرت، ضمن ما أصدرت، مجلة «الشعر»، وأوكلت رئاسة التحرير لناقد من أنصار الشعر الجديد وهو الدكتور عبدالقادر القط. وبالفعل صدر العدد الأول في يناير عام 1964، وكتب «القط» مقدمة طويلة جاء فيها: «إن صدور مجلة للشعر لا يُعَدّ ثمرة طيبة فحسب، من تلك الثمار الطيبة التي تقدِّمها وزارة الثقافة إلى حياتنا الأدبية والفنية، ولكنه إلى جانب ذلك بشير بنهضة كبيرة لهذا الفن الرفيع تردّ إليه بعض ماكان له من مكانة مرموقة في مجتمعنا العربي، وتتيح للشعراء أن تصل أصواتهم في يسر إلى دائرة أوسع من القرّاء، بعد أن ضاقت هذه الدائرة في السنوات الأخيرة حتى أحسَّ الناس أن الشعر يعاني لدينا من أزمة حقيقية لا بدّ لها من حَلّ… لقد تعرَّض الشعر في السنوات الأخيرة لكثير من الحملات الظالمة التي تصرف الناس عنه، وتثير الشك في قيمته وفي قدرته على مجاراة الحياة العصرية ومشاركته في نهضة مجتمعنا الجديد، وهي حملات تقوم على المفهوم السطحي الشائع عن الشعر من أنه ضرب من الخيال المهوّم والصنعة اللفظية والأحاسيس الجامحة البعيدة عن واقع الحياة».
وفي هذا العدد نشرت المجلة للشعراء: بدر شاكر السياب من العراق، وإبراهيم الحضراني من اليمن، ومن الشعر العالمي نشرت لطاغور الهندي، ولمحمد إقبال الباكستاني، وهكذا أرادت المجلة أن تكون- إلى حَدّ كبير- قادرة على نقل التيارات الفاعلة في واقع الشعر المصري، والشعر العربي والشعر العالمي، ولكن كل هذا لن يخفي النزوع الطبيعي والجامح للانحياز للحركة الشعرية الجديدة، وسارت المجلة على هذا النحو بضعة أعداد، وبدأت تحقق حضورها المنتظر، وذلك ما أثار حفيظة لجنة الشعر التي شعرت بأنها «مجرَّد كيان رسمي لا قيمة له، فاجتمعت بكامل أعضائها، وأصدرت بياناً شديد اللهجة. وكان ذلك بعد أن رحل العقاد عن اللجنة وعن دنيانا كلها». وتبنَّت مجلة الثقافة التي كانت تصدرها وزارة الثقافة هذا البيان ونشرته في العدد الصادر بتاريخ 17نوفمبر/تشرين الثاني 1964، وجاءت لهجة البيان، محرِّضة بطريقة لافتة للنظر، إذ جاء البيان مستنداً إلى مواد لائحية وقانونية متعسِّفة، وبدأب: «تنصّ المادة الثانية من قانون المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية على أن يكون من مهام المجلس وواجباته أن يبحث عن الوسائل التي تؤدّي إلى تنشئة أجيال من أهل الآداب والفنون، يستشعرون الحاجة إلى إبراز الطابع القومي في الإنتاج الفكري المصري بشتى صنوفه، ويعملون على التقارب في الثقافة والذوق الفني بين المواطنين، ممايتيح للأمة أن تسير موحَّدة في طريق التقدُّم، محتفظة بشخصيتها وطابعها الحضاري المميَّز. ولقد حرصت لجنة الشعر -منذ نشأتها- على العمل مهتدية بهذه المادة من قانونه»، وبعد أن يستعرض بيان اللجنة كافة إنجازات هذه اللجنة، مستخدماً كل عبارات التفخيم والتكبير والتعظيم، ومستخدماً كل عبارات ومفردات التقزيم لما عداها، راح البيان يحرِّض- بشكل واضح وصريح- على إنهاء وإيقاف صدور مجلة «شعر» متذرّعاً بأن إصدارها يعمل على هدم ما تكبَّدته من مشاق الالتزام بما سَنَّته القوانين، لأن المجلة لم تلتزم بإبراز الطابع القومي، وانحرفت عن المسار العام، وذلك ممايفسد الذوق العام.
ولأن اللجنة لا تدرك أن التطوُّر لا يلتزم بقوانين ولوائح، فقد اشتعلت المعركة من جديد، وكتب كثيرون من شتى الأطراف المعنية، وفي العدد الصادر في 24 نوفمبر من المجلة ذاتها كتب الدكتور عبدالقادر القط ردّاً عنيفاً، وبعد أن استعرض تحفظاته على صيغة هذا البيان وتوجُّهه وخلوّه من أي نزاهة قال: «حين أقرأ هذا الكلام تستبدّ بي الدهشة والعجب أن يكون من بين من يتصدّون لمراكز القيادة الفكرية لدينا من يعزل نفسه هذا العزل الغريب عن حقائق الحياة والحضارة والفن إلى هذا الحَدّ، فيعتقد أن هناك إطاراً يمكن أن يدوم «على مَرّ التاريخ»، ويرى في ذلك بديهة من البديهيات، ولكني مع ذلك سأحاول أن أفكّ ألغاز هذه البديهية العجيبة، فالإطار في الشعر، وفي أي فن آخر، لا تفرضه تقاليد ثابتة على مَرّ العصور، وإنما ينبع من عرف عصر معيَّن، وتفرضه طبيعة التجربة الشعرية وطريقة إدراك الشاعر لها وخضوعه لسائر مقومات الحضارة في عصره، وكل تغيُّر في هذه الحقائق لا بد أن يفرض بالضرورة تغيُّراً في الصورة الفنية أو ما تسمّيه اللجنة (الإطار)، تلك هي البديهة الثابتة باستقراء تاريخ الفنون عند كل الأمم المتطورة الناهضة، فقد تعاقبت على الآداب والفنون الأوروبية في القرون الأربعة الماضية من المذاهب المختلفة: الكلاسيكية، والرومانسية، والرمزية، والواقعية، والطبيعية، والتجريدية، والسريالية، وغيرها؛ مما باعد بينها وبين أصولها، وغيَّرَ من أشكالها تغييراً جوهرياً لا سبيل إلى إنكاره»، ويسترسل عبدالقادر القط في تفنيد الحجج الواهية والمغرضة للجنة، ثم يقدِّم مناظرة دفاعية نقدية عن الشعر الحر الذي أخذ بالتطوّر، أمام كل جمود وأمام كل اللجان التي حاولت إيقاف عجلة الزمن.
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *