الشعر والأخلاق (1)


فوزي كريم


هل كان أبونواس شاعراً لا أخلاقياً؟ والتوحيدي كذلك؟ الأول في الانغماس في الخمرة وحياةِ المتعة الحسية، والثاني ببذاءةِ اللسان؟
يقول أبونواس: “ديني لنفسي ودينُ الناس للناس”. وفي هذا إجابة وافية توضح أن هذا الانغماسَ في الخمرة والمتع الحسية لا يمسّ عالمَه الأخلاقي الرائق بشائبة، لأن المعيارَ الأخلاقي وليد المواجهةِ بين الفرد والآخر، الفرد والحياة، فما فعله أبونواس إنما هو رفضٌ قاطعٌ لما أملاه الدينُ والعرفُ الاجتماعي على الناس، من معايير سموها أخلاقية.
في حين أن المعيارَ الأخلاقي يعتمدُ الخيرَ والشرَّ، الجمالَ والقبحَ، الضغينةَ والحب، النزاهةَ والجشع… إلخ.
وحين تنصرف إلى خياراتِه تجدها ثمارَ عاطفةٍ واحدةٍ تنفرد بالشاعر، وهي عاطفةُ الحب، أنبلُ العواطف:
فالحبُّ فوقي سحابٌ والحبُّ تحتي سيولُ
فذا يسيخُ برجــــلي وذا عليَّ هطولُ
وللصبــابةِ حولي مــديـــنـةٌ وقـبيـلُ
وللحنينِ بقلبـي محلــــةٌ ومقيــلُ
وليسَ حوليَ إلا ريـــاحُ حبٍّ تجـولُ
وحين نقرأ التوحيدي نقع على عزلة روحية بالغة العنف، تصدر عن ذات تحلم لو تترك التاريخ وراء ظهرها، وتُقبل على إمتاع ومؤانسة من طراز يطمع فيه العقل، والروح والقلب. ولكن الحياة/ التاريخ يسعيان لدحرها أبداً، فهما لا يشتريان طموحَ العقلِ والروحِ والقلبِ بفلس. وشكوى أبي حيان وحموضةُ لسانه هما نتاجُ “غربة أديب” (التعبير للدكتور علي الوردي) حاد الطبع، عاجز عن الاحتمال والتصبر. ولا تمسّ عالمه الأخلاقي. فعالمُه الأخلاقي يعتمد فضحَ الشرور، واللاعدالة.
وجميعُنا نجدُ في أبي العلاء شاعراً رائق الأخلاق دون شائبة، بفعل تعففِهِ الواضحِ في الحياة وفي الشعر. وإذا شاء أحدُنا أن يفصلَ الشعرَ عن حياةِ صاحبِه بذريعةِ استقلال النص، فإن نصَّ أبي العلاء، حتى لو كنا نجهلُ سيرةَ حياتِه بصورةٍ تامة، كيانٌ حيٌّ مكتفٍ بذاته، تشكّل عناصرُه مع بعض نسيجاً واضحَ الانسجام. ويبدو لي أن التعارضَ بين نص الشاعر وحياتِه ضربٌ من أوهامِ النقدِ النظري. والقطيعةُ بين النص والحياة، حتى لو تمّتْ على يد “شعراء اللغة”، أولئك الذين يرون الشعرَ محضَ لغةٍ “تتمرأى في ذاتها”، فإن هذه النزعةَ اللفظيةَ لابدَّ أن تعكسَ بالضرورة “لفظيةَ” عقلِ وروحِ الشاعرِ الذي وراءها، ولفظيةُ العقل والروح مسطحةٌ بالضرورة، تميلُ إلى اللعب والعبث.
الشعرُ العربي أضاع، بسبب سطوةِ “الأغراض” الشعرية التي تنتسبُ في معظمها إلى رداءةِ طباعِ الكائنِ الإنساني (مدح، هجاء، فخر…)، فرصَ البصيرةِ الشعريةِ، التي تتمتع بها المواهبُ الشعريةُ البارزة. والخسارةُ مع أبي الطيب المتنبي، على سبيل المثال، فادحةٌ، بسبب موهبةِ المتنبي الاستثنائية.
الشاعرُ المتنبي كان متضخّمَ “الأنا” طوالَ حياته، متهالكاً على السلطة والجاه والمال. ولقد عرفنا هذا واستوعبناه عبرَ شعره. ولم يتركْ هذا الشعرُ حاجةً منا للعودة إلى حياته. والسؤالُ الآن، ما الذي نتوقعه من شِعرٍ ينبتُ في تربةِ هذه الأغراض ودوافِعها؟ طبعاً، أغراضُ الشعرِ الجاهزة لاحتضانِ هذه العناصر ستكون بالضرورة: الفخرَ، والمدحَ، والهجاء.
ولقد برع المتنبي فيها جميعاً، ولكن أيّ معنى للبراعة نقصد؟ ولمَ لا نتشكّك، قبل الخطوة الأولى، بمعنى المصطلحِ وغايته؟ لنأخذ بيتَ المتنبي التالي، وهو بيت لا يتردّد عربيٌّ في الإعجاب به:
واقفٌ تحت أخمصيْ قدْرِ نفسي واقفٌ تحت أخمصيَّ الأنامُ
الصورةُ تبعثُ على الدهشة، ولعلَّ الإدهاش وحده هو الباعث. ولكن هل الإدهاش قيمة فنية قائمة بذاتها، في معزلٍ عن دلالتها؟ أنا لا أشك أن الطبيعةَ فيك تستهجنُ قولَ المتنبي هذا، ولكن التطبّعَ فيك يطرب له عن رضا. إن ذائقتنا وليدةُ تطبّعٍ شعري رديء.
إن فخرَ المتنبي بنفسه يُشعرني بالحرج، وأراه عيباً في جملته، وأنا أستهجنُه من أي شخص كان، ولا فرق لديّ إن جاءني بصيغةٍ عاميةٍ، أو صيغةٍ خياليةٍ مدهشة، لأن التباهي
بـ”أنا” متعالية متضخمة فعل مُتدنٍ في ذاته. والإدهاشُ البلاغي واللفظي بالتالي ليس من عناصرِ الإبداع الشعري، فكمْ من شعراءَ معاصرين ركبوا موجةَ الإدهاش في قصيدةِ البياض، والقصيدةِ الميكانيكية، وقصيدةِ الرسم، وقصيدةِ اللغة، والقصيدةِ المضادةِ للقصيدة، سرعان ما غمرهم النسيان؟
الجريدة الكويتية

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *