طلل الذّات في كحلزون في بحيرة ملح


*باسم سليمان


خاص ( ثقافات )
مازال الشّعر يراود نفسَه عن نفسِه، أن يكون تدويناَ ضدّ فوات الزمن والمكان وتوقاً وندباً وتعففاً وتحنفاً عن جنّة ليس له من طريق إليها إلّا قول “عبدالله بن قلّابة” عن إرم ذات العماد وإلا كيف نفهم الوقوف على الأطلال والتباكي .
أطلال اليوم لم تعد مكاناً خارجياً يُسعى إليه خلف جمل ضائع بل الطلل الداخلي للإنسان هو من يحتلّ صفات ونعوت الإطلال القديمة وينحلها إلى نفسه بكل جدارة.
في ديوان الشّاعر جورج حاجوج ” كحلزون في بحيرة ملح” تتجلى ثيمة الوقوف على طلل الذات المتصدّعة والمتهدّمة والتي لم يبق منها إلا تلك القصائد القصيرة كرثاء ذاتي إلى ذات مشتهاة لكنّها ليست في متناول اليد والعين بل الخيال وزمن يعدو إلى الأمام كحصان يلسع ظهرَه خيال أعمى:” ضاق ذرعاً/ بأعناق كل الزجاجات/ إلّا../ زجاجات نبيذ معتق فارغة/ وبلا عنق/ وحدها كانت رفيقته!!”.
يتخفّف الشاعر حاجوج من الاستعارة وكأنه يريد أن يسقم الذاكرة كنوع من التعادل الإيجابي بين الطلل الداخلي والقول عنه، فهو لا يريد الركون إلى طلله بل أن يصبح عابراً فيه فقط وكأنه يستعيد عادة الشاعر القديم فما أن يضحّي ببعض الأبيات الشعرية أمام الطلل حتى ينطلق إلى شؤون أخرى وهذا ما نستشفه من العتبة العنوانية ” كحلزون في بحيرة ملح” فوجود كاف التشبيه منجاة للمشبه من التماثل مع المشبه به لذلك هو يمتهن الجنون حيث الجنون هامش العقل:” كلما زاره فرح/ قرع أجراسا / ودق طبولاً/ وكلما زاره حزن/ قرع أجراساً/ ودق طبولاً”. 
تتدفق جملة حاجوج بسلاسة موزعاً دلالات جمله بين اليد تارة والعين تارة أخرى مدعما جملته بإحالات صوتية بأشباه القوافي فقد قسم جملته الشعرية بين الصائت والصامت بين ما تفرضه شعرية الصوت من معنى قريب وشعرية المكتوب من معنى بعيد وهو إذ يفعل ذلك يؤكد فكرة العبور المؤقت في الطلل من حيث أن الصوت نهر لا تستحم به إلا مرة واحدة والمكتوب تستحم به مئات المرات، فهو تارة المار بطلله الوجودي وتارة أخرى يصبح هو الطلل ذاته:” صوب اليمين سكون/ صوب اليسار جنون/ وما بينهما فرح مؤجل/ فإلى أي اتجاه تميل؟/ أيها الممتطيي جوادا/ من هواء وماء/ أيها المتكي على ذاكرة / من رمل وطين”. 
على عكس العتبة العنوانية للديوان جاءت عناوين القصائد في جلّها الأعم مؤلفة من كلمة واحدة:” جدوى – حيرة – مدى – قرار ..” وبذات الوقت جاءت القصائد قصيرة إلّا بعضها القليل جداً وهذا الشكل الفني يخدم توجهات الديوان وكأنه متعجّل القول فالعنوان لديه لا يعدو أن يكون فاصلة منقوطة فهي ليست استرسالاً لما قبلها بل نتائج هكذا نفهم تضمينه لمقولة قس بن ساعدة ” من عاش مات/ ومن مات فات/ وكل ماهو آتٍ.. آت” وتأتي القصيدة بعد العنوان استرسالاً قصيراً أيضاً وهو يريد أن يصل بذلك لخواتم الأمور فإن كان من فوات فلا بدّ بعده من شيء ما، فالحياة دائرة فإن اندثر الطلل بقي القول في شكل طلل كتابي:” حتى الرمق الأخير../ كان موقناً/ أنه سيعثر على مسمارٍ/ يدقّه في نعشه/ ليكون المسمار الأخير”. 
صبغ ديوان ” كحلزون في بحيرة ملح ” للشاعر جورج حاجوج والصادر عن دار التكوين – دمشق لعام 2014 حزن شفيف يكاد من ألقه أن يدمع.
_________
*روائي وشاعر من سوريا 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *