*عبدالإله بلقزيز
حين أصدر أدونيس كتابه “الثابت والمتحوّل” (1) في العام 1973 (*)، لم يتفاجأ جمهوره من القراء بكبير معرفته بالتراث الثقافي العربي الكلاسيكي، هو الذي كان معروفاً، عند السواد الأعظم من ذلك الجمهور، بوصفه من رموز الحداثة وروّادها في الشعر والفكر، فلقد ألِفَ الكثيرون من قرائه أن يقرأوا له مطالعات في الشعر والنقد العربيين القديمين، وبعضاً من مقالات متفرقة حول الثقافة العربية الكلاسيكية . وإلى ذلك كانت معرفته الإمبراطورية بتاريخ الشعر العربي، وعلوّ منزلة ذائقته الجمالية بشعر لبيد وعروة وذي الرمّة وأبي نواس وأبي تمام، وممارسته الإبداع الشعري ثورة على المألوف، وإعادة بناء للقصيدة العربية: كياناً، وصورة، ولغة، وشغفه غير المنقطع بالتراث الصوفي الإسلامي، واكتشافه الدائب لكنوز مخزونه الرؤيوية واللغوية والتعبيرية . . .، كلها تشهد له بتلك المعرفة الثرّة، وبنجاحه الباهر في الاغتناء بقطوفها .
غير أن المفاجأة – إن كانت ثمة مفاجأة – في أن الجغرافيا الثقافية الأدونيسية وسعت مجالات ومساحات لم يكن مطلوباً من شاعر – وإن كان شاعراً كبيراً بحجم أدونيس – أن يستدخلها في منطقة الانهمام الفكري، وفي جملة تلك المساحات الفكر النظري والديني (= الفلسفة، علم الكلام، أصول الفقه . . .)، ولا كان مطلوباً منه أن يدرجها في ما كان عليه أن يَكِب على درسه في رسالة جامعية في الأدب العربي . كان يكفيه أن يطالع وجوه الثبات والتحوّل في الثقافة العربية الكلاسيكية الأدبية حصراً: شعراً ونثراً فنياً ونقداً أدبياً، وهو لذلك أهل (بل قد يكون الأهل في جيله من الباحثين) . لكنه ما اكتفى بذلك، ولا وجد في هذا الخيار المنهجي ما يشبع طموحه العلمي . كان نهماً في البحث العلمي نهمه في الشعر والإبداع والتنظير للحداثة في الأدب، ولذلك لم يقبل بأقل من وضع سؤال الثابت والمتحوّل، الاتباع والإبداع، في النطاق الإجمالي الأوسع للثقافة العربية الكلاسيكية (والحديثة)، في تعبيراتها كافة: النظرية والإبداعية، الفكرية والأدبية .
لهذا الإصرار من أدونيس على توسعة مدار المادة الثقافية المشتغل عليها – بحيث تشمل القطاعين الفكري والنظري من الثقافة العربية – مسوغٌ مشروع ومبرر، بيانه أن ثمة بنية ثقافية جامعة وموحّدة تسري علاقاتها الحاكمة في مجمل الإنتاج العربي الإسلامي على تباين قطاعاته وتعددها . وهو – الواعي هذه البنية – ما اختار أن يقارب وجهاً واحداً من وجوه التعبير عنها (= الإنتاج الأدبي والشعري)، وإنما حرص على مقاربتها في كلّيتها، ذاهباً إلى البحث عن الروابط الداخلية بين الماديّ والرمزي، بين الفكري والتخييلي، بين التقريري والجمالي . . إلخ، مضيئاً – من طريق ذلك – قطاعاً من الثقافة بقطاع، ساعياً في بيان التشابه في الأصول كما التجانس في تنزيلها والتعبير عنها بمفردات مختلفة، متناسبة مع هذا الحقل أو ذاك من حقول الثقافة العربية وأجناس القول فيها .
اختار أدونيس – بهذه الهندسة الشاملة لموضوع قراءته تراث الإسلام – أن يخوض في تحد علمي غير مسبوق هو قراءة بنية الثقافة العربية برمّتها، منتبهاً إلى ما يجمع بين فروعها وأمشاجها من مشتركات معرفية . وهو – بهذا الخيار المنهجي الذي اختاره وسعى فيه – سجّل ريادته في الدراسات العربية الإسلامية كباحث دارس لتراث العرب الثقافي في كلّيته، مدشّناً – بخياره هذا – مدرسة في الدرس والقراءة تقارب التراث ذاك بوصفه منظومة شاملة وهي المدرسة التي إليها انتمى محمد أركون، مبكراً، ثم محمد عابد الجابري وحسن حنفي، على تفاوت واختلاف بينهم في المنطلقات والأدوات والقراءات .
ولقد يقول قائل إن هذه القراءة الأدونيسية الشاملة للتراث العربي الإسلامي، في الثابت والمتحوّل، مسبوقة زمناً – وبعقود – بقراءة أحمد أمين في ثلاثيته (2) الشهيرة . وهذا صحيح إن كان يراد بالشمول سعة النطاق الدراسي، وجغرافيته العابرة للحقول والأجناس . غير أن الفارق بينٌ بين الذي ابتغاه أحمد أمين من عمله الموسوعي، وبين ما رامه أدونيس من دراسته، فأحمد أمين وضع تأليفه في صورة تأريخ للثقافة العربية، أي من باب الإفادة بما أنتجه مفكروها ومبدعوها من أفكار ونصوص، أما أدونيس فلم يكن يعنيه التاريخ والتعريف، بمقدار ما عني بإنجاز دراسة تحليلية نقدية لجدلية حاكمة للثقافة العربية وتاريخية هي جدلية الاتباع والإبداع . ما كان تاريخ الفكر والأدب قضيته، وإنما المقاربة الموضوعاتية لذينك الفكر والأدب . وهو اختار من الموضوعات الموضوعة التي تناسب هواجسه الفكرية والأدبية: الحداثة والتقليد، باحثاً – ومنقّباً في التاريخ – عن جدلياتها وتناقضاتها .
كتب أدونيس، خلال الأربعين عاماً الأخيرة الفاصلة بين صدور الثابت والمتحوّل وما ينشره اليوم، دراسات عدة في مجال قراءة تاريخ الثقافة والفكر الكلاسيكي في الإسلام، لكن كتابه الأول يظل نصّاً تأسيسياً (3) في مجاله، من جهة، وذا أثر كبير في الثقافة العربية والدارسين العرب للتراث من جهة ثانية . ولقد يكون لبعض الدراسات التي صدرت له في العقود الأخيرة، في ميدان تحليل الثقافة والتراث الديني، قيمة علمية أعلى شأواً من قيمة الثابت والمتحوّل: إن في منهج الكتابة أو في الرؤية (وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى أي باحث تمرّس في البحث وعركته الكتابة)، غير أن كتابه هذا يظل يحتفظ بميزتين لا مجال لإنكارهما، هما: شموليته، ورياديته في تأسيس الخطاب النقدي، فقلّما نجح باحث عربي، من جيل أدونيس، في أن يشق لنفسه طريق مغامرة الإطلال على مساحة فسيحة من التعبير الثقافي – الفكري والأدبي – راتقاً فيها الفتوق بين الأرخبيلات (= مجالات القول وأجناس التعبير)، وقلّما أمكن مجايلاً من مجايليه أن يمتشق سلاح النقد الحادّ الذي يجترئ على الممنوع، والمحروس من مؤسسات التحريم . . وثقافته .
هوامش
(1) أدونيس، الثابت والمتحوّل – بحث في الإبداع والاتباع عند العرب . بيروت، 1973 .
(*) الكتاب كناية عن أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي (قُدّمت في “معهد الآداب الشرقية” في “جامعة القديس يوسف” – بيروت)، وقد أشرف عليها الدكتور الأب بولس نويا اليسوعي، الذي كتب استهلالاً لنصّ أدونيس عند نشره .
(2) أحمد أمين، فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام . بيروت، دار الكتاب العربي .
(3) وهو تأسيسيّ بأكثر من معنى: بالمعنى الزمني، وبالمعنى المنهجي، ثم بالمعنى الرؤيوي .
_________
*الخليج الثقافي