مساءلة التراث روائيّا


هيثم حسين

إلى أيّ حدّ يمكن التعاطي مع الرواية على أنّها تعرض الحقيقة أو تقاربها؟ هل يكون النقاش عن فحوى تقديم الحقيقة أو التعمية عليها واردا حين مناقشة عمل روائيّ؟ ألا تبني الرواية حقيقتها الروائيّة انطلاقا من حقائق الواقع والتاريخ؟

اشتغل كثير من الروائيّين على حقائق ووقائع تاريخيّة في أعمالهم، فجاءت رواياتهم بمثابة صيغ نبش وتنقيب بأردية روائيّة، ومن هؤلاء المغربي عبدالفتاح كيليطو في روايته”أنبئوني بالرؤيا”، إذ أولى عناية خاصة للافتراضات التي تقرب الرواية من البحث، وتمزج بين الحقيقة والتخيل بحثا عن صيغ وإجابات، محرّضا القارئ على السعي للاكتشاف، وعدم الارتكان للمقروء أو المسموع، نافيا التسليم بالمنقول والمتداول، مثيرا السجال حول الأصل المفترض، والمتن المنشور بأكثر من طريقة.
حاول كيليطو أن يبدّد فكرة التعاطي مع التراث من باب التصنيم والإعجاز، وافترض تقديم الرؤى المختلفة المتباينة التي من شأنها تسليط الأضواء على جوانب معتمة من التراث، ما يمنح التراث نوعا من الجدة من جهة، ويحرره من قيود الصنمية التي تبقيه أسير ماض تليد يمنع التجديد والاجتهاد من جهة أخرى.
تمثّل ثورة بطل كيليطو ذروة التصدّي للأساطير المتوارثة، وصرخة الاستنفار المنشودة، وذلك حين يندفع في مداخلته، مؤكدا أن الاسم الوحيد الذي يفرض نفسه في سلسلة النقل والترجمة لألف ليلة وليلة هو اسم أنطوان غالان الذي، في مطلع القرن الثامن عشر، أصدر ترجمة فرنسية لليالي التي يراها البعض أحيانا متفوقة على الأصل.
يبالغ سارد كليطو في الاحتفاء بتلك الترجمة، حين يذكر أنه بفضلها والأصداء التي أثارتها عرف العرب، إن لم يكن وجود الليالي، فعلى الأقل أهمّيتها. ويختم خطابه بقوله إن شهرزاد هي في محصّل الأمر من إبداع غالان. ويصوّر كيف أنّ تصريحه ذاك استجرّ عليه غضب الحاضرين ونقمتهم، وقوبل بصيحات الهزء والسخرية والاحتجاج والشتائم. وبرغم أنّه كان يتوقع ذلك، لكنه فوجئ بكمية العنف ضده، وقدر آنذاك كم أصبحت الليالي عزيزة على العرب الذين لم يعبأوا بها طوال ألف عام.
يكمل كليطو فكرته على لسان بطله بالقول للهازئين والمعنفين والشاتمين إنّ الكتاب الذي يعتزّون به لم يصر عربيا إلا لأنّ الأوروبيين قرروا ذلك. “لقد صنعوا كتاب العرب، قالوا لكم: «هذا كتابكم»، فتبنيتموه. وها قد وقعتم في شباك حكاياته، فلن تستطيعوا أبدا الإفلات منه. سيجثم عليكم حتى فناء القرون”. يجب بذلك البحث عن الشخصية بعيدا عن تلبيس الآخرين وتقييدهم لها، ويتألم لأن الكنز التاريخي الدفين يكتسب قيمته حين يحتفي به الآخرون، في حين أنه يظل بعيدا عن الاهتمام لزمن طويل.
العرب

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *