صديقي الّذي سحبه التيّار


نزار حسين راشد

خاص ( ثقافات )

يزعم الأنثروبولوجيين أنّ نزعة الإيمان لدى الإنسان البدائي،أقوى منها بأضعاف لدى الإنسان الحضاري،بسبب قربه من الطبيعة وصلته بمظاهرها،أنا لا أعرف موقف العلّامة ابن خلدون من هذه الفرضيّة،علماً بأنّه ذكر البدو وليس البدائيين،في استفاضاته حول الحضارة،ولأنّي وجدتُ نظرته سطحيّة فيما يتعلّق بهذا الموضوع،حيث ذكر تعلّقهم بالزّخرف والألوان الفاقعة،فقد توقّفت عن قراءته!
ولكنّ الموضوع عاد وحضر في ذهني بقوّة،بسبب الصّداقة الّتي ربطتني عرضاً بصديقي البدوي،أو الّذي يزعم أنّه بدوي،فقد كانت نشأته في قرية،حيثُ يمارس القرويّون الزّراعة،وهذا ينأى به بالفعل عن التعريف الصّرف للبداوة،رغم أن الكثيرين،لا يعيرون انتباهاً لهذا التدرُّج في وسائل العيش،ويعتبرون أن كلّ من اقتنى الغنم وتنقّل في المواسم بدويّاً!
ولأنّي باحثٌ محترف،فأنا أعرف جيّداً،ما الّذي تعنيه الحالة النقيّة،بخلاف العامّة من الناس!فقد كنت أفرق بين من اقترنت بداوته بالفلاحة وبين من لم تقترن!
ليس ذلك فحسب،فقد قدّر لي أن أعيش حالة البداوة النقيّة،من خلال صديقٍ لي بدوي،تعرّفت عليه في مرحلة أبكر من حياتي،حيث كان قومه دائمي النقّل،ويعتاشون على الكلأ والرّعي،ولا يعرفون شيئاً عن الزّراعة!
ما يهمّني حقّاً كان أن أتحقّق،من مقولة الأنثربولوجين،حول ربط الإيمان بالبدائيّة،وحيث أنّ صديقي قد انتقل حديثاً إلى حياة المدينة،فقد انتظرت لأرى كم سيصمد إيمانه،أمام نزعة المدينة الماديّة،مظاهر حياتها البعيدة عن الطبيعة،مغرياتها،ونظام العلاقات النّفعيّة الّتي تربط أهلها!
ما فاجأني حقّاً بالدّرجة الأولى،أن حصيلة المعرفة الدّينيّة عند صديقي،حصيلة صفريّة ،وتكاد تقتصر على ما تعلّمه في المدرسة،أو ما قرأه عرضاً من خلال مغامراته المعرفيّة!
أمّا جذور المعرفة الدينيّة،فكانت مبتوتة الصّلة،بنشأته البدوّية الريفيّة،وحتّى بتربيته الأسريّة،اللّهم باستثناء بعض الخرافات الّتي روتها له والدته،وكلّها تتعلّق بمعجزات الصّالحين والأولياء،والّتي يضحك منها هو حاليّاً بحكم نموّه المعرفي!
لم تمض بضع سنوات،حتّى انضمّ صديقي للحزب الشّيوعي،وحتّى صار ماركس ملهمه ولينين معلّمه،وكان إخلاصه الشديد لهذا الدّين الجديد،وتفانيه في خدمته،حتّى وكأنّه كاهنٌ مكرّس،يثير سخرية الكثيرين،ممن تجمعه بهم الظّروف!
لقد نذرت نفسي لمطاردته بالأسئلة،حتّى أتحقّق إن كان توجّهه هذا عرضيّاً،أو أنّ ضحالة الإيمان في قرارة نفسه،والّتي لا بد مرتبطة بنشأته البدويّة هي السبب،الأمر الّذي يدحض مقولة الأنثربولوجيين،وهذا ما كنت أسعى إلى إثباته!
أسئلتي الملّحة الّتي حاصَرْتُه بها،دفعته دفعاً إلى أن يتوسّع في القراءة،حول أصول وتطوّر الأديان،الأمر الّذي وضع إجاباته موضع شك بمقياس الصّدق العلمي،حيث أصبحت إجاباته استعراضاً معرفيّاً،بدل أن تكون تعبيراً عفويّاً عن الحالة!
وهكذا تتبّعت مسيرته عن بعد،لأرسم له منحنى تطوّر،فوجدته ثابتاً لا يتضعضعُ!
لقد مضى على علاقتي به ربع قرنٍ تقريباً،لم يغيّر خلالها ولم يبدّل،بخلاف كثيرين حوله،ممن تغيّروا بدرجةٍ أو بأُخرى،أو حتى انقلبوا رأساً على عقب!أحدهم نصراني وأسلم،والآخر اتّجه للدّين بإخلاصٍ تام،بعد نجاته من حادث سيّارة،كاد يودي بحياته!مما جعلني أفكّر أنه ربما غياب المفاجآت عن حياته،ومضيّها على وتيرة واحدة إضافة إلى احتفاظه بنفس العلاقات،ربّما كان السّبب في تلك الإستمراريّة الغريبة!
ظلّ السّؤال في ذهني معلّقاً،لِمَ لَمْ يفكّر حتّى أن يذهب إلى الصّلاة يوم جمعة؟!أو يُلحّ عليه طائفٌ إيماني أن يدخل إلى مسجدٍ،مرّبه عرضاً في طريقه ليصلّي ركعتين؟!وحين تقدّمت به السن لِمَ لَمْ يفكّر بالذهاب إلى الحج،كما يفعل كثيرون؟!
هل العاطفة الدينيّة غائبة عنه إلى هذا الحد؟!وهل هوحقّاً شخصٌ طبيعي،يمكن القياس عليه؟!
لقد أردت أن أحسم الأمر،بعد كل تلك السّنوات،وأختم بحثي بالإجابة عن السؤال بنعم أو لا،الإثبات أو النّفي!
وأخيراً تجرّأت وسألته:
-بالنّسبة إلى ابنتك؟
-نعم ،ماذا بها؟
-لقدكبُرت!
-كل النّاس تكبُر،وخاصّة الفتيات ينمون بسُرعة!
شفع إجابته بضحكة لا مغزى لها!وأردفْتُ وقلت:
-هل علّمتها الخطأ من الصّواب؟
-بخصوص ماذا؟
-بخصوص علاقتها بالشّباب مثلاً!أنت ترى هذه الأيّام،الشّباب خارج إطار السّيطرة،والجاهل يذهب ضحيّة، خاصّةً الفتيات وضعهنّ حسّاس!
كنت أغامر بإثارة حفيظته ،وتوقّعت أن يغضب ويطردني ،ولكنّه بدلاً من ذلك،أجابني ببرود:
-لا،هذه المهمّة متروكة للأم!ولماذا وُجِدتْ الأمّهات أصلاً،إن لم يكن لإرشاد فتياتهن!
وضحك ضحكة مجلجلة،وغامرت أنا بمحاولتي الأخيرة،ماذا عن الأولاد الذّكور؟
-للأسف لم أنجب ذكوراً!
لَمْ يقل :لَمْ يرزقني الله،أو أي شيء من هذا القبيل!ولم يقُلْ حتّى إنّ الأمّهات خلقهُنّ الله لهذه الغاية،قال وجدن،وفقط وُجدن!هكذا وجدن؟أيُّها الجاحد!لِم لا تفش غُلّي وتجيب عن سؤالي بلا مواربة؟!هل تؤمن بالله؟هل آمنت ثُمّ كفرت؟!يبدو أنّني بدأت أفقد حيادي العلمي لصالح الإنفعال،لقد أخرجني هذا الرّجُل عن طوري،ولا بُدّ أن أوقف المهمّة،وأكتفي بهذا القدْر!
ارتشفت كأس عصير الجزر،ولا ادري لماذا قدّم لي جزراً أصلاً،وخرجتُ معتذراً على عجل،لأسجّل حالته كما هي،دون التّوصّل إلى أيّة نتائج!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *