إيتل عدنان تتهجّأ العالم شعراً


*ترجمة: خالد النجار


يمتزج لديها الشعر، ويتداخل مع النثر، مع الرسم، مع حياتها.

هي تسكن- شعرياً- العالم، وهي مأخوذة، باستمرار، بكل ما تقع عليه حواسها.

تبدو طفلة، رسولة منبهرة وممتزجة بأشياء العالم.

إيتل تذكّرني بتعريف غوته للشاعر.

… كلما أراها أستحضر كلمات غوته لصديقه إيكرمان في تلك العشرينيات من القرن التاسع عشر. يقول غوته: «الشاعر هو ذاك المأخوذ، وباستمرار، بعجائبية العالم، بروعة العالم والأشياء، لأن الشعر ينبثق من ذاك الحيِّز المجهول، حيث اللقاء السعيد للأنا مع العالم…»

كأن غوته كان قبل قرنين يصف إيتل عدنان.. الكلمات نفسها قرأتها لهنري ميللر في حواره، هو- أيضاً-، مع دي بارتيا.

هكذا هو الشعر لديها، لا يأتي من اللغة، وإنما ينبثق من تلك الإقامة الشعرية في العالم.

وهي، إذ تسافر من باريس إلى باثموس، إلى جبل تاملباييس، إلى الأندلس، إلى كاليفورنيا، أو تجلس في المقهى، قرب كنيسة سان سولبيس، في الدائرة السادسة، تتأمّل رغوة القهوة، والمطر الذي يغسل نصب باريس، أو تتأمّل شمس أغسطس فوق بحر أصيلة المغربية، وتستعيد حياة أناس ماتوا من زمان.. إنما تقوم بأعمال واقعية وحلمية في الآن نفسه.

لأنّ الواقع لديها حلم، والحلم حقيقة واقعية…

قالت لي: عندما كنت طفلة صغيرة كنت أكلِّم الزهور في حديقتنا، وكنت أعتقد أن الزهور تراني. هكذا هي إيتل تبعث الحياة السرّيّة الكامنة في الأشياء. 

وهكذا أحَبَّت جبل تاملباييس، ورسمته في جميع حالاته،

وعندما سُئِلت، يوماً، من هو أهم شخص التقته في حياتها،

أجابت فوراً:

جبل تاملباييس

إيتل تلامس ذاك العالم الخفي في الأشياء، العالم الذي ذكره أفلاطون، واستعاده بودلير في «LES CORRESPONDANCES»،

والشعر لديها فعل آني ينبثق تلقائياً (أقول: غريزياً)، ويجعلنا في تواصل مع ذاك العالم، كذلك هو التشكيل لديها.

كنت، ذات مساء بعيد، في شقّتها الباريسية بشارع جاكوب… أتذكّر: كان ضوء المساء يتدفّق عبر النافذة، برتقالياً ناعماً مالئاً فضاء الغرفة.

أخذت ورقة، ورسمت أمامي بأقلام البستيل الملوّنة، وبسرعة مذهلة، عملاً تجريدياً : حروفاً من أبجدية ابتدعتها لحظتها، وأشكالاً هندسية كأنها رموز طقسية من ديانات شعوب منقرضة…

وأخالها تكتب الشعر- أيضاً- بالطريقة نفسها، كما لو أنها تطلق آليّة شبيهة بآليّة السرياليين، أو هي خاضعة لصوت آخر يملي عليها ما تكتب، سرّيّ يأتي من الأعماق، وهي على نصف وعي به.



واليوم، إيتل عدنان، وهي في أواخر العقد التاسع، وبعد مسار طويل، ما تزال تفاجئ القارئ بقصائدها الجديدة وأعمالها التشكيلية.



وهذه القصيدة «العودة من لندن» هي الكتاب الأخير من رباعية، وهي عبارة عن يوميّات شعرية، وكل كتاب منها أُنجِز في يوم، تقوم على تاريخين هما:

-1 يوم 27 تشرين الأول، 2003.

-2 الجمعة 25 آذار، الرابعة بعد الظهر.

-3 في الثانية بعد الظهر.

-4 العودة من لندن. 
العودة من لندن
ألمح في أثناء عبوري
شرخاً في نسيج
النّهار
يتناقص عدد الملّاحين
والبحر ينتظر
نهاية الكائن الحيّ
سآخذ القطار بعد قليل
ثمّ سأوغل في الجدار
المغطّى بالكروم الحمراء.
غير وارد
النّزول إلى الحديقة.
على الزّمن
أن يغادرنا.
ضعوا تيجاناً
ذهبيةً فوق رؤوسكم،
فالجحيم ليس وحده
من يمتلك النّار.
نسمّي التاريخ آباراً
مفعمةً بالارتعاش الجسدي
وهذه الشجرة مشدودة
إلى ظلّها.
اللّعنة جَلَبة،
انفصام، نظرة تنغلق
وضربة نتلقّاها على الرأس.
بعض المقتنيات تموت
قبلنا، وقبل الحرب
كانت البيوت تنهار
تحت ثقل الأثاث.
لا برودة في هذا الصيف
لا خبز أيضاً،
محاط بالثروة
ثقب قي خاصرة السفينة الفضائيّة.
زاغ التفكير. منذ اللحظة
الأولى قلت لكم: امضوا
إلى الجبل، فمن فوقه لن تروا أي شيء.
الحمّى أصابت الزمن، والضوء يدهشه بريقه
الخاصّ
حينئذ، يبدأ السؤال النّهائي:
ماذا فعلت بطفولتي؟
… 
يبدأ الانتباه من ضباب
لا يدرك، وفي أيام
المطر نصير نباتات.
… 
لا تضيّعْ تلك الرغبة في الوجود
التي تسبق الولادة يولد التاريخ
في أماكن لامادّية، ثمّ يتبع القدر.
الحبّ هو تمرُّد الموت،
وبقاؤنا رهين
بقدرة الواقع على الانفلات
من هجمة اللغة.
الكسل ذو التّأثير المسكر
هو خمرة الفقراء، وأولئك الذين
يضلّون بينهم.
ثمّة أشكال من الحبّ تتضخّم
كالسرطان، ونحن نتشبّث بها
كما يتشبّث الجسد بمرضه، و
القمر بالشّمس.
ونحن فضّلنا الغياب
والألم والصّمت على الرّغبة الوالهة
لرؤيتك
سوف نظلّ نسدّده إلى الأبد.
أريد أن أفكِّر كقارب نجاة
لَفَظَته الأعماق إلى
السطح المضيء والقاتل
للبحر.
لتعلموا أن بلاد الإغريق، هي نفسها
مسرح، وهناك صعد الفكر
فوق الركح،
وأعشى أعيننا بصفائه.
وهناك ألم حيث ذهبنا،
في غفلة عن القوى، في شباب
ضائع، وبضوابط غير مميّزة
وأيدٍ خاوية.
ثمّ جاءت العاصفة والقوارب التي ألقت
مراسيها، فوق البحر النّديّ تبادلت
المعارف ونحن، نحن
تشبّثنا بحجراتنا العابرة وبكلمات الأب المتعفّنة.
وإثرها، بعد ساعات كثيرة،
وبعد حالات الإرهاق، وعديد الاسفار
أوهمنا أنفسنا بأنّنا نحيا.
والشباب ينتظر فوق الشواطئ
أن تتكرَّر الشمس
يريدون الرحيل، ليموتوا،
في أماكن أخرى، مثل حيوانات
الغابات.
الأسرة هي الأمّ. إنّها تدرك أنها الاصل
لقد منحت الموت القادم،
وحافظت على الحياة،
وهي تتورَّم على امتداد النظر.
لا تحطِّم قلب الفتيات
ستستقلّ قطار المنفى،
ويصبح الخبز صلباً بين أسنانك.
أنا، انتظرت أن أكبر، وفجأةً
انفجر الحبّ وسط البلاط، أُصِبت
بشظايا قاتلة.
ذاك الشّخص
الذي أتحدّث عنه اختفى.
لأنّه ثمّة أَسِرّة في المستشفيات
تتمسّك بحرفائها
وسدود تشوّش مياهها
لتطلب الحساب
من قدرك.
نغلق كتاباً، كما نغلق
حياتنا على أنفسنا.
قلبت الدمية المطليّة
بالجير على الطّاولة
حوّلتُ، من خلالها،
موتي.
حَدَقَتُه ترتعش على إيقاع
دقّات قلبه. إنّه
الموسيقار شوسكاتوفيتش.
يعود النّاس في أحلامنا
ليحملوا لنا حقيقتهم،
تلك التي رفضت عيوننا
أن تراها، وبسببها أحرقونا، فيما
أحرقوا أنفسهم.
لا تقولي لخالد إن الحقيقة هي
خطأ العقل، لأنّه سيمضي مباشرةً
إلى الميناء، ويضيع في صخب
المسافرين.
الضّوء يعشي عيون الحيوانات،
إنها تنتظر الليل، ومسيحها 
محتمَل الوجود أكثر من مسيحنا.
خرجت أتطلّع الى البحر من شرفتي.
نظر إليّ فأدركت أنه عليّ
ألاّ أندفع في
أمواجه الوحشيّة.
أطفئوا مصابيحكم قبل النوم.
والشمس التي قبلتكم تركت
حروقاً على الوجوه،
لقد عادت إلى عزلتها.
عبادة الموتى ليست سوى ذريعة
لترك الفقراء يتخبّطون
في السجون، والسيارات تنتظر.
في ضوء وهميّ، وفي فضاء
مسكون بالإلهي، تغنّي العصافير،
في آذان الشموع، ألم العيش
ذاك أن السعادة
لا تحتمل.
________
*مجلة الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *