تأمّلات في الحبّ والعدالة


د. أمّ الزين ينشيخة المسكيني


عن الحبّ كتب القدامى إمتاعا ومؤانسة، غزلا ومدحا، ووقوفا على الأطلال غير مرّة، وعن أخبار العشّاق نُظمت رسائل وكتب تسلية للملوك ودفعا للسأم عن النفس «بإسعافها بالمفاكهات الأنيقة والأخبار اللطيفة الرشيقة لتنشط من عُقال التعب وتستريح فتعود إلى المطلوب منها خفيفة من كل الوصب والنصب» (داوود الأنطاكي، تزيين الأسواق في أخبار العشّاق). أمّا اليوم في عصر الاكتئاب العالمي والخوف من المستقبل، فإنّ الحبّ قد تصيّر إلى شأن آخر. لم يعد الحبّ حقلا أيروسيا جذّابا لاستعارات الشعراء أو لأناقة الأدباء، بل صار إلى موضوعة إتيقيّة سياسيّة بامتياز بل إنّ الحبّ هو شأن فلسفيّ عميق أيضا.
إنّ «ظلّ الحبّ» صار يؤرق الجميع. وهو ما يتبدّى لنا بديّا في الدعوات الفلسفية الراهنة لاستعادة القدرة على الحبّ. وهي دعوات تراوحت بين الحبّ كموضوعة للتأويل والحبّ كاقتدار للتغيير. وفي كلتا الحالتين، إنّما يكون الحبّ أكثر من نزوة فرديّة إنّما هو اقتدار كونيّ على اختراع الحياة المشتركة (نيغري) أو هو قدرة إتيقية على المصالحة بين ما السعادة والواجب، بين العدالة كتطبيق صوري للقوانين والعدالة التوزيعية كشكل من الإنصاف والتكافل الاجتماعيّ (بول ريكور).
سوف نكتفي في هذا المقال بقراءة نقديّة لنصّ للفيلسوف الفرنسي بول ريكور تحت عنوان «الحبّ والعدالة» انطلاقا من ترجمته العربية لحسن طالب.
الحبّ والعدالة
تشكيلة طريفة من المعاني وشبكة لطيفة من الأصوات التي تتصادى، عنوان مثير يفصل المقال بين مفهومين من المفروض ألاّ يلتقيا في ثنائي واحد. ذلك أنّ الحبّ يحلم فقط، في حين أنّ العدالة تحاسب وتعاقب. وذلك أنّ الحبّ عطاء بلا حدود لكنّ العدالة ميزان وشهود. وفي حين لا يملك المحبّ غير حلم صغير، فإنّ صاحب العدالة يملك الواقع كلّه. رغم ذلك يصرّ الفيلسوف الفرنسي المعاصر بول ريكور على ضرب من المصالحة بين الحبّ والعدالة. هل ثمّة حبّ عادل أم أنّ كل حبّ إنّما هو في جوهره حبّ ظالم على نحو ما؟ هل أنّ العدالة قادرة على الحبّ؟ ومتى كان صاحب السيف محبّا؟ في حضارة يسبق فيها السيف العذل.
إنّ ثنائي «الحب والعدالة إنّما هو وسيط منهجي رمزي للتفكير تأويلا بالتوتّر بين اللاهوتي والسياسي في ضرب من المصالحة بين الفلسفة والنصّ المقدّس. وهو ما يصرّح به الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بوصفه المفكّر – النموذج بامتياز للمصالحة بين الفلسفة واللاهوت، على نحو فلسفي أنيق وحصيف وعميق، عن نصّه حول «الحبّ والعدالة» بما هو «التفكير حول اللاهوتي – السياسيّ في مواجهة مع إشكاليّة خيبة أمل العالم». نعم ثمّة خيبة أمل كبرى من العالم. خيبة أمل جعلت العالم نفسه «يفقد قدرته على أن يكون عالما». وفق عبارة للمفكّر المعاصر جون لوك ناننسي.
والسؤال الأوّل الذي يواجه المفكّر هاهنا هو: «كيف يمكن الحديث عن الحبّ من دون الوقوع في المدح أو في الابتذالات العاطفيّة؟». من هنا تأتي الحاجة إلى وساطة منهجيّة تجعل من الحب والعدالة حقلا تأويليا طريفا لتجديد خطاباتنا حول الحبّ. لكن الحبّ من أكثر الثيمات تواترا لدى الأخلاقيين واللاهوتين. فهل يكون الحبّ موضوعة أخلاقيّة ولاهوتيّة معا؟
ما يقترحه نصّ ريكور المعنون «الحب والعدالة» هو إعادة تأويل فلسفي للحبّ المسيحي. إنّه ينشّط ثيمة الحبّ من أجل إمكانيّة مجتمعات عادلة يحلو فيها العيش معا في عالم يتّسع للجميع. والسؤال الذي يؤرق المفكّر عندئذ إنّما هو تحديدا: «هل للحبّ في خطابنا الأخلاقيّ وضع معياريّ قابل للمقارنة بوضع النفعيّة أو بوضع الأمر الكانطيّ؟». أي بلغة أبسط: هل يجدر بالحبّ أن يكون نفعيّا أم هو دوما عطاء لا محدود دون ابتغاء أيّة منفعة؟
النزعة العاطفية
كيف يمكن الكلام عن الحبّ «دون السقوط في النزعة العاطفيّة التي لا تفسح مجالا للفكر؟ تبدو الخطابات في الحبّ على غرابة وشذوذ يجمّعه ريكور في ثلاث سمات يحصيها كما يلي: كل خطاب في الحب يبدو خطاب مدح. ابتهاج ونظر وإعلاء من شأن المحبوب. مثل هذه الخطاب على قرابة عميقة بالترتيل أو التمجيد أو التطويبات من قبيل «طوبى للإنسان الذي لا يسلك بمشورة الشرّيرين..».
أمّا الغرابة الثانية فتتعلّق «بالاستعمال الغامض لصيغة الأمر في التعبيرات المشهورة من قبيل «أحبب الربّ إلهك.. وأحبب قريبك كنفسك». لكنّ تحويل وصيّة مقدّسة إلى مجرّد حالة شعوريّة بعد التأسيس الأخلاقي الحاسم للواجب مع كانط إنّما يعدّه ريكور ضربا من «الفضيحة» نفسها. ذلك أنّ وصيّة الحبّ المقدّسة هذه تملك من المشروعيّة الأخلاقية الكونيّة من القيمة التأويلية أكثر من مجرّد نزعة شعوريّة فرديّة.
وفي هذا السياق اللاهوتي التأويلي يصير «الحبّ قويّا كالموت». وهنا يجد ريكور في كتاب «نجمة الخلاص» لفرانز روزنتسفايغ موطئا تأويليّا بهيجا حيث لا تعتبر وصيّة الحبّ المقدّسة قاعدة أخلاقيّة بقدر ما تعتبر الكلمة نفسها التي تسبق كلّ قانون وهي التي تتجسّد في نداء المحبّ «أحبّني». وحيث يتعلّق الأمر عنده بضرب من الاستعمال الشاعري لهذه الوصيّة مختلف تماما عن استعمالها الأخلاقي. رُبّ وصيّة الاهيّة تشير إلى «الحبّ ذاته وقد احتمى بنفسه.. فالحبّ موضوع وذات الوصيّة في آن واحد».
أمّا شكل الغرابة الأخير في خطاب الحبّ فهو يندرج تحت راية الحبّ بوصفه شعورا ويتعلّق الأمر بالقوّة الاستعاريّة لترنيمة الحبّ حيث «يضفي النداء الملحّ أحبّني الذي يتوجّه به المحبّ للمحبوب تلك الديناميّة التي بفضلها يصبح قادرا على حشد تشكيلة منوّعة من المشاعر التي نحدّدها من خلال حالاتها النهائية: اللذة مقابل الألم، الرضا مقابل السخط، الابتهاج مقابل البؤس، السعادة مقابل السوداويّة..».
الخير والقانون
أمّا عن العدالة التي يفحص معانيها في القسم الثاني من محاضرته.. فيقف فيها ريكور عند تحديد «ماهية حالات العدالة أو مناسباتها وبقنواتها وأخيرا بحجها». العدالة هي في جوهرها نشاط تواصليّ «فنحن نكون أمام العدالة حينما تكون هيئة عليا مدعوّة للحسم بين ادّعاءات أطراف ذوي مصالح أو ذوي حقوق متعارضة». لكن بالرغم من صوريّة مفهوم العدالة بوصفها ممارسة حقوقيّة محضة فإنّ ريكور يكشف عن توتّر هذا المفهوم وتعدّد دلالاته بما هو مفهوم يتأرجح ما بين ما هو خير وما هو قانوني. وفي الحقيقة ثمّة طريقتان لتعريف هذا المفهوم: التعريف التعاقدي الذي نجده لدى كل من هوبز وكانط وراولس وهو القائم على نوع من اللانفعيّة المتبادلة للمتعاقدين ضمن الوضعية الافتراضيّة السابقة على التعاقد. أمّا التعريف الثاني فيقوم على نوع من الإقرار بتبعيّة متبادلة تجعل من العدالة في علاقة بضرب من التضامن الاجتماعي إزاء أشكال اللاعدالة السائدة في العالم وهو أيضا تعريف العدالة كإنصاف.
ما يثير ريكور ويحرجه هو أنّ «حالات العدالة وقنواتها تختلف اختلافا كلّيا عن ظروف الحبّ وقنواته، ناهيك عن اختلاف حجج العدالة عن حج الحبّ». ذلك أنّ الحبّ لا يحاجج ولا حجج له أو عليه. وهو أمر يناقض فيه العدالة التي هي لا تقتصر على الحجاج بل تتعدّى ذلك إلى القرار. والقاضي ليس يكون حاملا لميزان العدالة فحسب بل هو أيضا حامل لسيفها. إنّ العدالة قوّة وفي الحبّ ضروب شتّى من ضعف الحبيب أمام المحبوب. كيف يواجه ريكور هذا التعارض بين العدالة والحبّ؟ يذكّرنا ريكور بالتصوّر الأرسطي للعدالة في معنى العدالة التوزيعية. أي أن «يتسلّم كل فرد على حدة حقّه، ضمن حالة معيّنة من حالات التوزيع فتلك هي المعادلة الأكثر انتشارا للعدالة».
العدالة التوزيعيّة
هكذا إذن يكون ثمّة علاقة حميمة بين العدالة والإنصاف والمساواة. لكن ما علاقة مفهوم العدالة التوزيعيّة بثنائي الحب والعدالة؟
إنّ مفهوم التوزيع هاهنا إنّما يمنح مفهوم العدالة قاعدة أخلاقية واسعة النطاق يجعل منها دعامة للتكافل الاجتماعي وهو ما يجد في تصوّر جون رولس للمنفعة المنزّهة عن الغرض دلالته العميقة. كيف يمكن المصالحة بين نموذج السعادة القديم ونموذج القانون الأخلاقي الحديث؟ ريكور يقترح تجذيرا تأويليا لوصيّة الحبّ «أحبّ قريبك» بوصيّة أكثر عمقا هي «أحبّوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم وصلّوا لأجل الذين يسيؤون إليكم». ذاك هو ما يقترحه القسم الأخير من نصّه حيث يتوقّف ريكور عند ضرورة مدّ «جسر بين شعريّة الحبّ ونثر العدالة أي بين الترنيمة والقاعدة الشكليّة». كلاهما يلتقيان عند نقطة تقاطع واحدة هي حقل الفعل البشريّ. والجديد في معالجة ريكور هو أنّ الحبّ ظلّ دائما ممتدحا لذاته ولتساميه الأخلاقي. ولم يقع اعتباره في علاقة جادّة بالممارسة. أمّا في قوانين العدالة فليس ثمّة قاعدة واضحة تحيل إلى الحبّ. ومع ذلك فالحبّ والعدالة يتوجّهان إلى حقل الفعل. يكتشف ريكور أنّ ثمّة طريقا ثالثا لمعالجة هذا الثنائي الغامض. وهو طريق يكشف لنا عن جملة من التوتّرات التي يعالجها الفيلسوف واحدة تلو الأخرى. فهو يقف عند التوتّر مابين المنطق الفائضيّ لوصيّة الحبّ ومنطق التكافؤ للقاعدة الذهبية للعدالة. وصيّة الحبّ تنصّ على محبّة الأعداء وقاعدة العدالة تنصّ على معاملة الناس بالمثل أي «وكما تريدون أن يفعله الناس بكم، افعلوا أنتم بهم أيضا ما فعلوه بكم». تبدو بهذه الطريقة وصيّة الحبّ وصيّة فوق أخلاقيّة مغالية جدّا في حين تبدو قاعدة العدالة قائمة على ضرب من النفعيّة المتبادلة. لذلك فالمطلوب هو تحديدا العثور على طريق ثالث للمصالحة بين شعريّة الحبّ ونثر العدالة، أي بين الترنيمة والقاعدة الصوريّة. فوصيّة الحبّ من حبّ القريب إلى حبّ العدوّ تقوم على اقتصاد الهبة أي على منطق الفيض أي العطاء بلا حدود. في حين أنّ قاعدة العدالة إنّما تقوم على منطق التكافؤ أي معاملة الناس بالمثل.
كيف نفهم هذا التوتّر بين النصّين أي كيف المصالحة بين اللاهوتيّ والسياسي صلب تأويل النصّ المقدّس نفسه؟
إنّ الأمر يتعلّق بضرب من «التوتّر الفعّال» الذي يسمح بالتسامي «عن التأويلات المنحرفة». فلولا ترنيمة الحبّ الفوق-أخلاقيّة التي تتجاوز قدرات البشر، لتحوّلت قاعدة العدالة المغالية في الصورنة إلى مأثورة نفعيّة قابلة للصياغة في «أعط لأنّك أُعطيت». إنّ المبالغة الشعريّة لترنيمة الحبّ إنّما تصحّح مسار القاعدة الذهبية للعدالة وتحرسها من التحوّل إلى منطق للنفعيّة والابتزاز المبتذل. ثمّة إذن مقصد إتيقي عميق صلب الاستعارة الشعريّة لوصية الحبّ فوق- الأخلاقية من أجل تصحيح قاعدة العدالة ضدّ ميلها النفعي. وهكذا يصحّ الحديث عن ضرب من «الفعل التعاضديّ للحبّ والعدالة». علاوة على أنّ «الحبّ فوق أخلاقي.. لا يلج دائرة الممارسة إلاّ تحت مظلّة العدالة». وهكذا أخيرا تمّ ضرب من التوفيق بين الحبّ والعدالة أي بين منطق الفيض ومنطق التكافؤ بما هو مهمّة للفيلسوف ورجل اللاهوت معا. وكلّ ذلك من أجل إدماج ضرب من «الرأفة والسخاء في قوانينا» أي جعل العدالة إنصافا.
اللاهوت والفلسفة
إنّ الغرض من هذه الاستعادة التأويلية التي ينجزها الفيلسوف ريكور هاهنا إنّما هو الكشف عن التوتّرات الإيجابيّة المتضمّنة في النصوص ونفض الغبار عن المعاني المتردّمة التي أفسدتها تأويلاتنا المنحرفة للنصّ المقدّس. فالتوتّر الكامن في نصوصنا لا ينبغي التنكّر له أو استهجانه أو التخلي عنه إنّما بوسعنا دوما أن نجدّد من فهمنا لهذه النصوص وفق أدوات تحليل مغايرة.
لكن هذا التصوّر الذي يتأرجح بين اللاهوت والفلسفة، ورغم كلّ الرشاقة الفلسفيّة واللطافة الإتيقية التي يملكها من جهة رؤية حكيمة للعلاقة بين الشعوب ونصوصهم وذاكرتهم العميقة، إنّما يبقى في حدود التبشير بالرؤية الإنجيلية للحبّ. وكأنّما المسيحيّة هي النصّ الأصلي والوحيد للتشريع لضرب من الحبّ الكونيّ. في حين أنّ الكونيّة تتجاوز حدود أوروبا المسيحية. وكأنّما وصيّة الربّ تكفي للعدالة كإنصاف للبشر في عالم قيم رأس المال التي لا تتقن الحبّ بأيّ شكل. وهو اشتغال لاهوتي في عمقه يقف في حدود استعادة تأويليّة للحبّ كما جاءت في النصوص المقدّسة من أجل ضرب من المصالحة بين اللاهوتي والسياسيّ تصل إلى حدّ محبّة الأعداء، دون اعتبار للبعد التاريخي الدقيق لإنسانيّة تحوّل فيها كل شيء إلى بضاعة في سوق الامبريالية العالمية. لا يمكن لأيّ كان أن يحبّ عدوّه حتى لو كان إلاها. فكيف بالشعوب المتقاتلة اليوم في كل مكان من العالم والعالم العربيّ بخاصّة، كأنّما قدرنا أن نكون دوما «إمّا نعجة مذبوحة أو حاكم جلاّد». كم ستستغرق استعادتنا الأخلاقية واللاهوتيّة للحبّ في ظلّ غموض المرحلة ووجهها القبيح معا؟
لذلك يحسن بنا أن نعرف أيضا أنّه ثمّة امكانية مغايرة للتفكير بالحبّ في الفكر المعاصر. بحيث أنّ الحبّ ليس مجرّد ثيمة للتأويل إنّما هو اقتدار يصلح للتغيير، تغيير العالم من حولنا والشهادة على ولادته دوما ومن جديد. وهو ما نجده لدى كل من باديو ونيغري بخاصّة.. نعم ينبغي علينا أن نخترع الحبّ من جديد. لكن ليس الحبّ هاهنا حبّا معولما ولا حبّا لاهوتيّا، لكنّه حبّ المخاطرة والمغامرة والمقاومة ضدّ حبّ الأمن والرفاهة. إنّه الحبّ الذي يصنع المشترك وتحمله الجموع اقتدارا وتجاوزا وإبداعا للحياة حيثما يقع تهديد الحياة. وهذا هو معنى نداء نيغري إعادة تعلّم الحبّ، حبّ من نوع جديد غير لاهوتي وغير ليبيرالي وغير استهلاكيّ. ليس هو الحبّ المسيحي المستكين الذي يقول «من ضربك على خدّك فاعرض له الآخر..». إنّما هو الحبّ كشكل من النضال المعاصر ضدّ الوعود الكاذبة للكهنة والسماسرة والمتحذلقين، ضدّ تسطيح البشر وتتفيههم وتحويلهم إلى كائنات استهلاكيّة أو أرقام في ورشة تجريب كبرى لرهط قبيح من البشر. هكذا إذن، يقترح المفكّر الإيطالي طوني نيغري حبّا من أجل إبداع الحياة المشتركة ضدّ نزوات الفرد الاستهلاكيّ البضائعيّ. ففي ظلّ حضارة العولمة لا أحد بوسعه أن يظلّ وحيدا بل إنّ «المرء لا يمكنه أن يكون وحيدا إلاّ مع الآخرين». (وفق عبارة نيغري). لكن لا ينبغي اعتبار الآخرين مجرّد أفراد أنانيين يزاحموننا في اللهفة على العالم كسوق مثيرة للغثيان، إنّما هم أصدقاء ومحبّون. وهاهنا قد يساعدنا الحبّ على استعادة إتيقية لقيمة العلاقات الإنسانيّة النظيفة واللانفعيّة.
جملة القول إنّ الحبّ وحده لا يكفي لصناعة العدل. فالعدالة والظلم من شأن الدول. والدول لا تحبّ أحدا حتى لو كانت دولا ثوريّة أو ديمقراطيّة. وإنّ العودة إلى نصوصنا المقدّسة تأويلا وتبريرا وتنشيطا لا يكفي لمواجهة سلطة الرأسمالية المتوحّشة بأجنداتها وشبكاتها العنكبوتيّة. هل نقول مع هيدغر «وحده الربّ ينقذنا»، أم نقول مع ألبير كامو «جبان من ييأس من الوضعية البشريّة ومجنون من يأمل منها أيّ شيء»؟…..
أصول وأنواع
اهتمت الأديان والفلسفات بالمحبة، ومنحتها تأويلات مختلفة، وفي بعض الأحيان حددتها بقواعد وأحكام.
ففي المسيحية تبدو المحبة وكأنها مفتاح الدين. هي الشريعة الوحيدة المحرّرة من كل شيء. وهي حرية الإنسان الحقيقية وهي التي توصل لله.
ويعطي كورنثوس الأولى (13: 4- 7) وصفاً مفصلًا للمحبة: «الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّوء، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.»
وقسم العرب في الجاهلية الحب إلى أقسام وأعطوا المحبة أعلى دراجاتها.
ومع مجيء الإسلام أصبحت المحبة تعني محبة الخالق لخلقه، ومحبة الخلق للخالق، ومحبة البشر بعضهم ببعض. والرأفة والرحمة تعبران عن قيمة الحب في القرآن الكريم. والمحبة الشرعية ليست مجرد عاطفة متعلقة بالوجدان وحده، وإنما هي متعلقة بالوجدان والعاطفة، والعقل والإرداة، والعمل: عمل القلب، وعمل الجوارح؛ إذ أنها جزء مهم من الإيمان.
وكان أفلاطون هو أول من شرح فكرة المحبة فيما يسمى بالحب العذري أو الحب الأفلاطوني. فهو الحب العفيف الذي لا يدخل به أي علاقة جنسية. وبحسب معلمه سقراط، فإن هذه المحبة هي أساس الحب التي تمثل العلاقة بين البشر والآلهة. وبناء عليه، فإن أسمى علاقة بين شخصين هو هذا النوع من الحب الذي يماثل حب الآلهة البعيد عن الشهوات. بالتالي، اعتبر أفلاطون وجود نوعين من الحب، الحب المبتذل (إيروس) والحب الطاهر (المحبة).
الفيلسوف اليتيم
بول ريكور فيلسوف فرنسي وعالم إنسانيات معاصر ولد في فالينس، شارنت، 27 فبراير 1913، وتوفي في شاتيناي مالابري، 20 مايو 2005. هو واحد من ممثلي التيار التأويلي، اشتغل في حقل الاهتمام التأويلي ومن ثم بالاهتمام بالبنيوية، وهو امتداد لفريديناند دي سوسير. يعتبر ريكور رائد سؤال السرد.
في كتابه «طول تأمل»، يحكي ريكور عن نفسه: سأبدأ السرد بما أحفظه من ذكرى السنة التي أمضيتها بقسم الفلسفة إبان الموسم الدراسي (1929 1930) أيام كنتُ ابن سبع عشرة سنة، وإني لأذكر أنها السنة التي اصطدمتُ فيها بتعليم مغاير بالكلية لما كنتُ حصلته في سابق دراستي، سواء أكان ذلك في الأدب أو في التاريخ أو في العلم، على أن اختلاف هذا النمط من التعليم لم يكن متعلقاً دوماً بأصحاب المؤلفات المدروسة، فقد درسنا سابقاً، ومن وجهة نظر أدبية، المآسي الإغريقية والخطباء اللاتين وباسكال ومونتسكيو وفلاسفة القرن الثامن عشر.
لم تكن حياة بول ريكور بسيطة وطريقها معبَّداً بالزهور، بل كان فقيراً ويتيماً بعد وفاة والده، ووفاة والدته أثناء ولادته، وتربيته في كنف عمته وجده لأبيه، وبالرغم من اعتباره إدارياً من (أيتام الأمة)، إلا أنه انساق إلى الرسم والقراءة، وكانت حياته منحصرة بين البيت وثانوية الذكور في مدينة (رين)، وبالرغم من اكتشافه (للكلاسيكيين الكبار) في السنوات السابقة لسنة الفلسفة، ولكن ذلك لم يمنع عن صدمة اللقاء بالفلسفة الحقيقية التي لم يستطع التعرُّف عليها عند موتتاني وباسكال وفولتير وروسو.
______
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *