*ترجمة نصر عبد الرحمن
جاء فوز الكاتبة البيلاروسية «سفيتلانا أليكسيفيتش» صادماً لقطاعات واسعة من المثقفين العرب، الذين لا يعرفون هذه الكاتبة من قبل، ولم تتم ترجمة أي من كتبها إلى اللغة العربية. ربما يكمن سر الصدمة في وجود أسماء كبيرة وشهيرة على المستوى العالمي، لها رصيد أدبي ومعرفي ضخم، وأعمالهم مُتاحة باللغة العربية. وما ضاعف الصدمة هو السيرة الذاتية للكاتبة التي فازت بأرفع جائزة أدبية في العالم، فهي ليست أدبية بالمعنى المُتعارف عليه، بل صحفية تكتب قصصاً وتحقيقات صحفية ذات طابع استقصائي، ولم تنشر سوى خمسة «كتب» فقط، هي: «ليس للحرب وجه أنثوي» عام 1985، و«فتيان الزنك» عام 1989، «مأخوذ بالموت» عام 1993، و«صلاة من أجل شرنوبيل» عام 1997، و«زمن الأشياء المُستعملة» عام 2013.
تتناول كتبها الخمسة ثلاثة موضوعات فقط، هي الحرب السوفييتية في أفغانستان، وانفجار مفاعل تشرنوبيل، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وهي تلتزم في كتاباتها بشكل التحقيق الصحفي، وتركز على اللحظات الإنسانية، وتتخذ موقفاً ضد الحرب، ولقد حصلت على جائزة السلام من الرابطة الألمانية لموزعي الكتب عام 2013 باعتبارها كاتبة مُناهضة للحرب، رغم أنها لم تكتب سوى عن الحرب السوفيتية في أفغانستان فقط، حتى أنها لم تكتب عن الحرب الأمريكية التي تدور منذ سنوات في أفغانستان أيضاً، أو عن حروب البلقان التي اندلعت في العقود الثلاثة الماضية. وهو ما قد يُشير إلى أن كتاباتها تنطوي على نوع من الغزل للغرب، أكثر منها مُحاولة جادة لفضح ويلات الحروب.
لقد سادت فكرة لها ما يدعمها، إبان الحرب الباردة، أن مُهاجمة الأدباء للكتلة الشرقية هي أحد الطرق المؤدية إلى جائزة نوبل، والحصول على اهتمام إعلامي في الغرب. وجاء اختيار «سفيتلانا» هذا العام ليُعيد هذه الفكرة إلى الأذهان مرة أخرى، ويُجدد الانتقادات إلى جائزة نوبل في الأدب. ولكن، رغم أهمية الجائزة، إلا أنها لا تصنع أديباً عالمياً، فكم من أدباء وشعراء لم يحصلوا على نوبل، واحتلوا مكانة بارزة في الذاكرة الإنسانية، وكم من أدباء حصلوا على الجائزة المرموقة ثم طواهم النسيان.
وعلى أي حال، يحتاج القارئ العربي إلى الاطلاع على تجربة «سفيتلانا»، ليحكم عليها بنفسه. وهذه ترجمة لمقدمة كتابها «فتيان الزنك» وأحد مقاطعه.
مقاطع من «فتيان الزنك»
في الفترة من 1979 إلى 1989، تورط ملايين الجنود والمدنيين من الاتحاد السوفييتي في حرب أنكرت الدولة أنها تدور. وبلغ عدد الضحايا نحو خمسين ألف شخص أغلبهم من الفتيان، عادت جثامينهم في توابيت من الزنك (فتيان الزنك)، هذا فضلاً عن آلاف الجرحى الذين لم يتم تسجيلهم. ومنذ انتهاء الحرب عام 1989، استمر المجتمع السوفييتي في التنكر لذكرى الحرب وضحاياها، رغم التغيرات الجذرية التي طرأت على طبيعة الدولة. وبالطبع، لم يتم إطلاق اسم «فيتنام السوفييت» على هذه الحرب من فراغ.
لقد أثار الكتاب جدلاً وغضباً فور نشره للمرة الأولى في الاتحاد السوفييتي، رغم أنه لا يتعرض للحرب من الناحية السياسية، بل يُقدم من تأثروا بها سواء كانوا جنوداً أم مُمرضات أم باغيات، أو أمهات لم يعد أبناؤهن إلى الوطن، أو أطفال لم يعودوا يعرفون معنى «الوطن».
يصف الكتاب جمال أفغانستان، والممارسات الهمجية للجيش، والمحال التجارية المُكتظة بالبضائع الغربية، ونقص الخدمات الأساسية، والقتل والبتر. وتتسم الأصوات التي يقدمها الكتاب بالغضب، سواء كان الصوت صارخاً أو مُرتبكاً، أو مهزوماً أو مُتحدياً. غضب جراء ما حدث لهؤلاء الأبرياء.
وتقدم لنا «سفيتلانا» كلمات هؤلاء الأشخاص دون إصدار أحكام عليها، وتعرض لنا ارتباكهم وتناقضاتهم ورؤاهم الذاتية. تقدم «سفيتلانا» رؤية مُتفردة لحقائق هذه الحرب سواء في أفغانستان، أو في داخل المجتمع السوفييتي المُضطرب في الوقت الراهن.
جزء من كتاب «فتيان الزنك» للحائزة على نوبل 2015
مطار «طشقند». ثمة رائحة بطيخ قوية للغاية. يبدو المكان أشبه بحقل بطيخ منه إلى المطار. الساعة الثانية صباحاً، ودرجة الحرارة بلغت ثلاثين درجة على ميزان الحرارة. القطط البدينة نصف المتوحشة، كما يطلقون على الأفغان، يجلسون بلا أدنى خوف خلف عجلات قيادة سيارات الأجرة. جنود صغار السن، لا يعدون كونهم فتياناً، يسيرون على عكاكيز بين حشود من الناس سفحت شمس الإجازة بشرتهم، ويتحاشون أكوام الحقائب وصناديق الفاكهة. لا يبدو أن أحداً يلاحظ وجودهم، يبدو أن وجودهم مألوفاً هنا، كما يبدو أنهم ينامون ويأكلون على أوراق الصحف والمجلات القديمة، أثناء محاولة الحصول على تذاكر سفر إلى «سراتوف»، و«قازان»، «نوفوسبيرسك»، «فوروشيلوفوجارد»، و«كييف»، و«مينسك»..
لا يهتم أحد كيف تعرضوا للإصابة، أو عن أي شيء كانوا يدافعون. لا يهتم بهم سوى صبي صغير لا يرفع عينيه الواسعتين عنهم. اتجهت متسولة مخمورة إلى أحد الجنود وقالت له: «تعالى يا حبيبي، سوف أهتم بأمرك…». يلوح لها الجندي بعكازه، إلا أنها لا تبالي، وتتمتم بشيء حزين نسائي الطابع.
يجلس بعض الضباط إلى جواري، ويتحدثون عن سوء الأطراف الصناعية المصنوعة في الاتحاد السوفييتي. ويتحدثون كذلك عن التيفود والكوليرا والملاريا، وعن عدم وجود آبار، أو مطابخ ميدانية، أو مراحيض، أو ماء للاغتسال في بداية الحرب. وكانوا يتحدثون عن من استولي على أي منزل، ومن حصل على مُسجل فيديو، سواء كان ماركة «شارب» أو «سوني».
هناك مقولة: «الحرب زوجة أب للبعض، وأم حنون للبعض الآخر».
لا أستطيع نسيان نظرات هؤلاء الضباط إلى الفتيات الجميلات في ثيابهن القصيرة، وهم يشعرون باسترخاء وسعادة، بعد الحصول على إجازات، وصف «ديستوفسكي» رجال القوات المُسلحة بأنهم «أكثر الناس جهلاً في العالم».
تفوح رائحة كريهة من مرحاض مكسور في صالة الانتظار الصغيرة المُخصصة لرحلات «كابول». لقد كان انتظاراً طويلاً، واندهشتُ حين رأيت الكثير من النساء. سمعت أجزاء من بعض الحوارات: «لقد أصابني الصمم. أول ما لاحظت هو عدم قدرتي على سماع أصوات الطيور. على سبيل المثال، لا يمكنني سماع المطرقة الصفراء بوضوح. قمت بتسجيل صوت الطرقات، وأعدت سماعها بعد أن رفعت الصوت إلى أقصى درجة، ولكنني.. إنه نتيجة إصابتي بارتجاج في المخ».
«تطلق الرصاص أولاً، ثم تكتشف بعدها أنك أصبت سيدة أو طفلاً، كلنا نعاني من الكوابيس».
«الحمير هناك ترقد على الأرض أثناء القصف، وتنهض مرة أخرى بعد أن يتوقف».
«ماذا سأفعل حين أعود إلى الوطن، هل سأصبح عاهرة؟ هذا ما قد أصل إليه. أريد فقط أن أجمع قدراً من المال لأشتري شقة خاصة بي. الرجال؟ ماذا عنهم؟ هل ما يقومون به هو احتساء الخمر؟».
«كان ذلك الجنرال يتحدث عن عجز الموارد الخارجية، والحاجة إلى الدفاع عن حدودنا الجنوبية. كان على وشك البكاء وهو يتحدث».
«أحضري لهم الحلوى، إنهم مجرد أطفال. الحلوى هي أكثر شيء يحبه الأطفال».
«ذلك الضابط الشاب. حين اكتشف أنهم بتروا ساقه، انخرط في البكاء. كان وجهه يُشبه وجه فتاة صغيرة، لونه وردي وأبيض. كنت أخاف الجثث في البداية؛ خاصة الجثث ذات الأطراف المبتورة، إلا أنني اعتدتُ الأمر في النهاية».
«إنهم لا يأسرون أحداً، يبترون أطراف من يمسكون به، ويوقفون النزيف حتى لا يموت، ثم يتركونه على هذه الحال حتى يأتي رجالنا ويحملون جذعاً فقط. هذه الجذوع البشرية ترغب في الموت، إلا أنهم يُتركون أحياء».
«رجال الجمارك اشتبهوا في حقيبتي، وسألوني: ماذا تحمل إلى الوطن؟، قلت لهم لا شي، فلم يصدقوني، وجعلوني أخلع ثيابي، ووقفت بملابسي الداخلية. يحمل الناس، عند عودتهم إلى الوطن، حقيبتين أو ثلاثاً بها الكثير من الأشياء».
«استيقظ حتى لا يفوتك المشهد. الطائرة تحلق فوق «كابول»، نحن نهبط».
هناك صوت طلقات رصاص. أوقفتنا دورية يحمل أفرادها أسلحة رشاشة، ويرتدون سترات واقية، ليفحصوا أوراقنا. لا أريد أن أكتب عن الحرب مرة أخرى، ناهيك عن حرب تدور رحاها بالفعل. هناك شيء لا أخلاقي، يُشبه التلصص، حين تُحدق عن قرب في وجه شخص شجاع يواجه المخاطر.
كنا نتناول الإفطار بالأمس في المقصف، ووجهنا التحية إلى الشاب الذي يتولى الحراسة، وبعد نصف ساعة، قتلته شظية طائشة بعد انفجار قذيفة مدفع هاون داخل المُعسكر. حاولت طوال اليوم أن أتذكر وجه ذلك الفتى.
«تجار القصص الخرافية»، هذا هو الاسم الذي يطلقونه على الصحفيين والكتاب هنا. أنا السيدة الوحيدة في المجموعة. كان الرجال يتوقون للذهاب إلى الجبهة، فسألت أحدهم: «لماذا أنت حريص على الذهاب إلى هذا الحد؟»، فأجاب: «إنه أمر مثير، سوف أقول بعد ذلك أنني كنت في سلانجا، وأطلقت الرصاص».
لا أستطيع القول إن الحرب هي نتاج الطبيعة الذكورية، فهو أمر لا يمكن التيقن منه بسهولة.
«أطلقت الرصاص من مسافة قريبة، ورأيت كيف تنفجر الجمجمة البشرية، وفكرت: هذه هي المرة الأولى بالنسبة لي. بعد المواجهات، هناك دائماً الكثير من القتلى والجرحى، ولا أحد يهتم. أحلم هنا بعربات الترام. أحلم بأنني أعود إلى وطني في عربة ترام، الذكرى المُفضلة لدي هي لأمي أثناء قيامها بخبز الفطائر، ورائحة الفطائر الحلوة تنتشر في أرجاء المنزل».
«لدي صديق حميم عرفته هنا. وذات يوم، رأيته يجرجر أحشاءه فوق الصخور.. وتجتاحني رغبة في الانتقام».
«نحن ننتظر هذه القافلة. ننتظرها منذ ثلاثة أيام ونحن نرقد فوق الرمال الساخنة، ونقضي حاجتنا في أي مكان. أصابنا الجنون بعد ثلاثة أيام. أطلقنا عليهم الرصاص مُحملاً بالكراهية، وبعد أن توقف إطلاق النار، اكتشفنا أنها قافلة تحمل موزاً ومربى. أصابنا الغيظ من مدى ما أصابنا من غباء».
كُتبت عبارة «الانتقام من أجل مالكي» باللون الأحمر على إحدى الدبابات. وفي منتصف الطريق، تركع سيدة أفغانية شابة إلى جوار جثة طفلها، وقد انخرطت في النواح. لقد اعتقدت أن الحيوانات الجريحة فقط هي التي تنوح بتلك الطريقة.
مررنا بالسيارة على القرى المُدمرة. ذكرتني بالحقول المحروثة. كانت تلال الطين عديمة الملامح، في موطن عائلتي، تخيفني أكثر من الظلام، الذي قد يختفي فيه قناص من الأعداء. وفي المستشفى، شاهدت فتاة روسية تضع لعبة أطفال على سرير طفل أفغاني. التقط اللعبة بأسنانه، وبدأ يلعب بها، فقد كان بلا يدين. قام المترجم بترجمة كلمات أمه: «أنتم أيها الروس أطلقتم عليه الرصاص. أليس لديكم أطفال؟». لم أفهم إن كانت كلماتها تعبيراً عن مزيد من الرعب أو الصفح.
______
*المصدر: الخليج الثقافي