«دليفري» الكتب… خدمات جديدة في سوق الثقافة العراقية


صفاء ذياب


لم يتوقف تجار السوق العراقية من تقديم أفضل ما لديهم لعرض بضائعهم، مبتكرين بذلك أحدث الطرق للوصول إلى المستهلك وترغيبه؛ في الوقت نفسه، بما يعرضون، مهما كانت تلك البضائع، فضلاً عن إقناعه بشكل أو بآخر بأنه بحاجة ما لجعل حياته أفضل مع ما يعرضونه.

لم تشهد السوق العراقية انفتاحاً وتنوعاً في البضائع مثل السنوات العشر الأخيرة، فكل ما يمكن أن يخطر ببال المستهلك موجود، ومن مناشئ لا يمكن أن تعد، إلى درجة أن التجار العراقيين بدؤوا بابتكار نماذج مغايرة عما هو موجود في السوق العالمية وتصنيعها حسب طلباتهم في الصين أو الدول ذات التكلفة القليلة الأخرى.

وإذا كان المستهلك العراقي بحاجة إلى المأكل والملبس، فضلاً عن الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، فإن هناك مستهلكين بحاجة لسوق أخرى وهي سوق الكتاب، فما قبل عام 2003، كان شارع المتنبي ومنطقة باب المعظم مكاناً لإعادة إنتاج الكتاب، عن طريق جلب نسخة واحدة من كتاب ما من عمَّان أو دمشق أو بيروت واستنساخه بتكلفة قليلة مقارنة بسعر النسخة الأصلية وتسويقه من جديد. ومن خلال تجربة بسيطة، فقد قمنا باستنساخ كتابي «ذهنية التحريم» و»ما بعد ذهنية التحريم» لصادق جلال العظم أكثر من ألف نسخة بيعت جميعاً خلال أقل من شهر، فضلاً عن كتب نصر حامد أبو زيد وخليل عبد الكريم وغيرها الكثير جداً، إلى درجة أنه في أول معرض كبير للكتاب بعد حصار طويل عام 1998، فوجئت دور النشر العربية بعد زيارتها لشارع المتنبي أن كتبها تباع بأقل من ربع سعر الغلاف على الأرصفة، وهو ما أدى إلى تدني مبيعاتهم إلى أقل مستوياتها، حسب أقوالهم.

الآن، وبعد انفتاح سوق الكتاب، وقيام مكتبات كثيرة باستيراد الكتاب من بيروت ودمشق والقاهرة، أصبحت العناوين موجودة بأسعار يستطيع العراقي تحمل تكاليفها، إلا أن تردي الوضع الاقتصادي مرة أخرى أدى إلى تدهور مبيعات الكتب، ما دفع أصحاب المكتبات إلى ابتكار طريقة «الدليفري» لإيصال الكتاب إلى البيوت، أو أماكن العمل في بغداد وبعض المدن العراقية.. فما الذي دعا أصحاب هذه المكتبات، إن كان لها مقر أو إلكترونية، لهذا العمل؟ وهل وصل الأمر بالقارئ إلى العجز من البحث عن الكتاب بنفسه، ما أدى لطلبه وهو في البيت من دون عناء؟
حفّارو المكتبات
الكتبي فارس الكامل؛ صاحب مكتبة المعقدين في دولة الكويت ومدينة البصرة، يعتقد أن «الدليفري» جاء كعدوى لزيادة التسويق لا أكثر، وهذه العدوى أتت منا نحن الذين نسكن الخليج.. لأن خدمة التوصيل للمنازل خدمة قديمة في دول الخليج المجاورة لنا، خصوصاً لنا نحن العراقيين المتواصلين مع دولة الكويت والإمارات وإطلاعهم على هذه الخدمة. «تخيل مثلاً في الكويت توجد حتى خدمة توصيل الشيشة – الأركيلة- للمنازل».
ويضيف الكامل: في الآونة الأخيرة اطلع أصحاب المكتبات العراقية على هذه الخدمة في الإنترنت من خلال مواقع كبيرة مثل أمازون أو نيل وفرات أو جملون.. أو على تجارب صغيرة مثل، المكتبات الكثيرة المنتشرة في الانستغرام.. ويوجد سبب موضوعي آخر، هو عدم قدرة بعض الأشخاص، خاصة ربَّات البيوت على الذهاب إلى أسواق الكتب العراقية، خاصة شارع المتنبي المزدحم نتيجة عارض اجتماعي لا أكثر، فبادرت بعض المكتبات لهذه الخدمة. ولا يعتقد الكامل أن القارئ العراقي الجاد يلجأ لهذه الخدمة، فهو حفار قديم يخرج نوادر الكتب من بين آلاف الكتب التي تعرض كل جمعة في المتنبي.. ولو تشعبت أكثر أجريت إحصائية لما يتم توصيله للمنازل، ستجد أن أغلب هذه الكتب لا يتعدى الروايات أو الكتب الأكثر مبيعاً أو كتب الجوائز، وهي كتب تجارية لا يعول عليها. ويؤكد الكامل أن خدمة توصيل الكتب خدمة حضارية سيرتفع أداؤها مع الوقت، لكن العقبة الوحيدة التي تهددها هي عدم وجود خرائط واضحة وتقسيم معاصر لأغلب المناطق العراقية، كالمنطقة والزقاق ورقم المنزل كما هو موجود في دول العالم جميعاً، «أنا في عملي بتوصيل الكتب في الكويت رفيقي هو الـ GBS وهذه التقنية أعتمد عليها 100٪ من دون جهد البحث عن هذا العنوان أو ذاك في أي مكان في الكويت».
أسباب ونتائج
ويشير الكتبي علاء ياسر، صاحب مكتبة ودار عدنان، إلى أن هذا نوع من التطور في وسائل المبيعات، فبيع الكتب بـ»الدليفري» موجودة في أغلب دول العالم، إضافة إلى عدة عوامل ساعدت على توفر هذه الخاصية، منها أن أغلب المكتبات تغلق الساعة الثالثة عصراً، فضلاً عن صعوبة الوصول إلى شارع المتنبي بسبب غلق الشوارع المحاذية له، وعدم وجود أماكن لوقوف السيارات، الأمر الآخر هو أن النساء لا يستطعن المجيء إلى شارع المتنبي أو السعدون بسبب الظروف الأمنية في بغداد أولاً، والازدحام المستمر في هذين الشارعين ثانياً، وأعراف وتقاليد أغلب العوائل العراقية التي تمنع خروج بناتهن لأماكن غير العمل والمراجعات الرسمية والطبية ثالثاً. لذا تجد أن أغلب طلبات الكتب تأتي من قبل النساء اللواتي يخبرننا أنهن لا يستطعن المجيء للمكتبات. أما الدارسون والباحثون فيسهل لهم «الدليفري» وصول الكتب التي يحتاجونها إليهم، كما أن ضيق الوقت لديهم وارتباطهم بعمل في الصباح دفع الكثير منهم إلى طلب الكتب بـAالدليفري».

غير أن هناك سبباً آخر، وربما هو الأهم في هذه الخطوة، وهو أن وضع المكتبات ومبيعاتها تدهور خلال السنوات الماضية، بسبب انتشار الكتاب في أماكن عديدة أولاً، والوضع الاقتصادي الذي عاد للتدهور مجدداً بعد ارتفاع رواتب الموظفين والعاملين لمدة ليست بالطويلة، غير أن ارتفاع أسعار السوق جعلت من زيادة الرواتب نقمة وليس نعمة. وربما قلة الطلب على الكتاب دفع الكثير من الكتبيين إلى إيجاد طرق جديدة لتسويق الكتاب، منها إنشاء معارض كتاب داخل الكليات والمنتديات الثقافية، فضلاً عن تنقلهم بين مدينة وأخرى من أجل الترويج للكتاب. علماً بأننا نشهد تراجعاً مخيفاً في الطلب على اقتناء الكتب مقارنة بالسنوات السابقة، لذا نسعى بشتى الطرق على أن لا ينقرض سوق الكتاب في العراق.

غير أن باسم الياسري، صاحب دار ضفاف العراقية، يرى أن الكتاب فقد بريقه القديم وقدرته على التأثير في القارئ، وأصبحت معلومات شاب صغير هي أفضل من معلومات رجل في الخمسين قبل ثلاثين عاماً، بفضل الميديا التي انتشرت، لكن معظمها معلومات سريعة وليست رصينة. أما عن خدمة توصيل الكتاب إلى القارئ، فيعتقد الياسري أنها تفقد المتابع لذة الانتفاع بالاطلاع على إصدارات أخرى، وعشاق الكتاب يدركون هذه الحقيقة، غير أن اللجوء إليها ربما له عدة دوافع، منها أن الإقبال على الكتاب انخفض كثيراً، وهذا ما يجعل الناشرين وأصحاب المكتبات يبحثون عن وسائل جديدة، كما أن زحمة المدن، ربما هي الأخرى سبب من أسباب وجود هذه الخدمة، مضيفاً أن هناك الكثير من القراء العرب يعيشون في بلدان ربما لا تهتم بالكتاب العربي، وهم بحاجة إلى من يوصل الكتب إليهم.

من جهة أخرى، يرى الياسري أن محاولة تقليد الغرب هو أحد أسباب وجود هذه الطريقة، وليس بالضرورة ما ينجح عندهم سينجح عندنا، فهناك الكاتب ربما يعيش حياته من كتاب واحد ينشره. وأغلب الظن أن هذا لن ينجح كثيراً إلا في حالات نادرة، كأن يكون العربي في بلد أجنبي، أو هو مريض أو يسكن أو في منطقة نائية، فمتعة الاطلاع على كل ما هو جديد وتصفح الكتب باليد هو متعة بحد ذاتها، وإن لم تقتن منها شيئاً.
سلعة زهيدة
الكتبي مصطفى غازي فيصل، في أقدم مكتبة في البصرة، وهي المكتبة الأهلية، يتحدث عن هذه الخدمة أنها قد تكون جديدة على الشارع الثقافي العراقي، ولكنها معمول بها منذ زمن في جميع دول العالم. مضيفاً أن الظروف التي يمر بها البلد من تدهور في الأوضاع الأمنية، إضافة للتدهور الاقتصادي انعكست على مجمل السوق ومنها سوق الكتب, ما حفز المكتبات للسعي لإيجاد منفذ تسويقي جديد قديم, كونه جديدا على سوق الكتب العراقية، ولكنه مفعل ومنذ زمن على مستوى دور النشر العالمية والعربية على حد سواء.
ويوضح فيصل أنه قبل بضع سنوات راجت ولم تزل الكتب الإلكترونية على الأقراص المدمجة (CD) ، فضلاً عن مواقع المكتبات الإلكترونية، ولكنها لم ولن تلغي دور الكتاب الورقي، على الرغم من تأثيرها على كمية تصريفه في السوق, واليوم على الرغم من وجود هذه الخدمة «الدليفري» إلا أنها لا تلغي ولا تغني متعة بحث القارئ بنفسه عن الكتاب في أروقة المكتبات ورفوفها العامرة بشتى العناوين… أغلب المكتبات في أيامنا هذه لها مواقع إلكترونية وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يعزز فعالية خدمة «الدليفري» من حيث العرض والطلب. إن مجتمعاتنا الذكورية الطابع تحدد المثقفات والساعيات للقراءة بمساحة حرية قد تكون شبه معدومة أو ضيقة للتجوال في أسواق الكتب والمكتبات، التي توجد في بعض المحافظات العراقية عموماً وفي بغداد خصوصاً كما في شارع المتنبي، فهن الأكثر استفادة من هذه الخدمة غير المكلفة فهي لا تتجاوز إضافة مبلغ عن بدل التوصيل على قيمة الكتاب الفعلية, ومع كل ذلك يبقى الكتاب في العراق من السلع الزهيدة الثمن قياساً لقيمته في الدول المجاورة.
——
القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *