موسى برهومة*
حينما أمر والي البصرة سفيان بن معاوية بقتل ابن المقفع، فقطع جسده إرباً إرباً ورماه في التنّور حتى هلك صاحب “كليلة ودمنة”، لم نسمع آنذاك من دان الجريمة أو جرّمها أو حرّمها. بل تقاتل الناس في شأن استحقاق ابن المقفع القتل بهذه الطريقة الشنيعة، كونه كان “زنديقاً” أم لا، ليثبت التاريخ أنه بريء من التهمة، وأن للحكاية جذوراً سياسية، ومنبتاً كيدياً.
وليس مقتل ابن المقفع بهذه الطريقة المتوحشة منبتّ الصلة بسلسلة طويلة من أحداث مشابهة ليس أوّلَها أمرُ الخليفة أبي بكر الصديق خالداً بن الوليد بـ”تحريق أهل الردة بالنار”، كما يروي ابن قدامة، وليس آخرها حكم التنظيم الإرهابي “داعش” بإحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً، استناداً إلى فتوى شرعية تبيح ذلك.
وأما الذين راحوا يشيرون إلى أن التنظيم اقتطع فتوى من يسمى “شيخ الإسلام” أحمد بن تيمية من سياقها، فإنهم لم يقدموا شيئاً جديداً، فقد كان كلام إبن تيمية واضحاً: “فأما إذا كان في التمثيل الشائع دعاء لهم إلى الإيمان وزجر لهم عن العدوان، فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع”. واختلف المختلفون في كون الإحراق تمثيلاً أم لا. كما ذهب أن الأحكام الفقهية التي أطلقها إبن تيمية وافقت الزمان الذي وضعت له، حيث وضعت في حالة حرب بين المسلمين والتتار. وكأن إحراق التتار جائز ولا غبار عليه!
ولا حرج لو اعترفنا بأن الثقافة العربية الإسلامية تمور بمرجعيات عنيفة ودموية تحض على القتل، وما هو أبشع من إحراق الكائن حياً، بدلالة أن رد الأزهر على جريمة “داعش” بحق الكساسبة كانت تقضي بالدعوة إلى “تقطيع أيدي وأرجل الجناة وصلبهم حتى الموت”
ولا يغرف الأزهر، هاهنا من بئر صغيرة، بل من محيط من المفاهيم التي يكان يكون العنف عنوانها الأشد سطوعاً، فهل ثمة أبلغ من أن الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين أعقبوا أبا بكر ماتوا غيلة؟
وأما الحسن والحسين ابنا علي، وحفيدا الرسول فقد مات الأول مسموماً، والثاني مقتولاً.
ولئن اُتفق على مقتل الحسن والحسين، فقد اختلف المؤرخون في طريقة قتل المتصوف السهروردي الذي اتهم “كالعادة” بالزندقة، فذكر بعضهم أنه خُيِّر في كيفية قتله، فاختار أن يموت جوعاً، فمُنِع عنه الطعام حتى تَلِف. ومنهم من يذهب إلى أنه قُتِل بالسيف، وآخرون أنه أحرِق، وبعضهم قال إنه خُنِق بوتر.
ومما يروى عن تاريخ العنف في الإسلام، وهو مليء بالشواهد الكثيرة، ما ذكره الطبري وابن اسحاق وابن الأثير وابن كثير في تواريخهم، إذ أجمعوا على أنه حين انتصر خالد بن الوليد على نصارى الحيرة من العرب ومن والاهم من جنود فارس في معركة أليس، وهي قرية من قرى الأنبار في العراق، حيث لقي المسلمون مقاومة عنيفة منهم، وعندها نذر خالد لله فقال: “اللهم إن لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحداً قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم”. ولم يطل الأمر حتى انتصر جيش خالد ، فأمر خالد بإمساك الأسرى، وأخذهم عند نهر أليس، وسد عنه الماء، ومكث لمدة يوم وليلة يضرب أعناقهم حتى يجري النهر بدمائهم كما نذر لله، وعندما لم يجر النهر بدمائهم قال القعقاع بن عمرو التميمي لخالد: “لو أنك قتلت أهل الأرض جميعاً لم تجر دماؤهم! فأرسل الماء على الدماء فيجري النهر بدمائهم”. ففعل خالد ذلك، فسمي النهر يومها بـ “نهر الدم”.
وإن صحت الرواية، فإن أنهار الدماء التي يعدنا بها الإرهابيون ممن يحتمون بالمقدس وفقهائه الدمويين، ستغمر الحياة، ما لم ينهض من بين المسلمين من يقول قولاً شجاعاً وحسناً، ولا يرد على الحرق بتقطيع الأوصال، وشي الأطراف، وشرب الأنخاب بالجماجم!
* باحث وأكاديمي من الأردن
( ذوات )