‘عشر نساء’ رواية كل نساء العالم



*هيفاء البيطار


“عشر نساء” رواية بديعة أسرتني للكاتبة التشيلية مارثيلا سيرانو المولودة سنة 1951 وتعتبر من أهم كاتبات القارة الأميركية الجنوبية والترجمة لصالح علماني وقد صدرت أواخر العام الماضي في دمشق.
ثمة عبارة أحب أن أبدأ بها وردت في رواية عشر نساء هي: “عندما تقرأ هذه الرواية كأنك تحدق في عيون كل نساء العالم”.
بطريقة جذابة وبحيلة روائية طريفة جمعت الكاتبة تسع نساء لا يعرفن بعضهن وكل منهن تنتمي لقومية معينة وبلد مختلف وتركت كل امرأة تحكي قصة حياتها وتجول في أعماقها بحرية وشفافية، أما المرأة العاشرة فهي معالجة نفسية سردت شهادتها أيضا وجمعت شهادات النساء التسع. ويمكن قراءة الرواية بدون ترتيب واختيار المرأة التي نريد معرفة قصتها، إذ يمكن اعتبار الرواية أشبه بقصص قصيرة تحكي كل قصه حياة امرأة، ولست بصدد سرد قصة كل امرأة إذ أترك تلك المتعة للقارئ، لكن ما يجمع هؤلاء النسوة واحد وهو أنهن كن مدفونات في الصمت وخائفات من التعبير عن أنفسهن.
الصمت أحيانا “أشبه بالإلغاء أو الكفن إذ لا يمكن أن تعرف الآخر حقا” إن لم يتكلم، ليس أي كلام، بل أن يبوح بحقيقة أعماقه وأفكاره وقراءته للعالم، لا يهم أن نعرف تفاصيل قصة ليلى ذات الأصل الفلسطيني لكنها ولدت في تشيلي ثم قررت أن تزور فلسطين لأنها مشدودة لجذورها وتعشق وطنها، ورغم أنها تدخل فلسطين كسائحة تشيلية فإنها تتعرض لاغتصاب ثلاثة من الجنود الإسرائيليين، وتواجه اغتصابها بالصمت رغم أن نتيجته الحمل، وتعود إلى تشيلي دون أن تذكر لأسرتها أي شيء عما تعرضت له ولا تقول لهم أنها حامل من أحد مغتصبيها الإسرائيليين.
أصبحت ليلى مدمنة كحول كي تخفف ألم روحها والمهانة التي تعرضت لها، وبدأت تكذب كثيرا من غير أن تلاحظ ذلك، وتشعر أنها أشبه بجرح كبير تداعبه وتقبله والغضب الكامن يغلي في أعماقها لأنها لم تبح بمأساتها، ولأنها دفنت معاناتها في الصمت، وصارت تعتمد على تغذية قدرة النسيان عندها، لكنها مع الزمن اكتشفت أنه لا بد من ملامسة القاع حتى تنجلي الحقيقة، فالحقيقة كالحق تحررنا من عبودية الألم ومن ذل الصمت.
بشجاعة تبوح ليلى بقصتها بعد صراع داخلي عنيف، وهي بذلك لا تختلف عن لويسا المسيحية التي عانت من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية والتي تقول عنها بأن الكنيسة الكاثوليكية اخترعت الجحيم كي يظل الفقراء هادئين ويفكروا أن هناك أشياء أسوأ من هذه الحياة.
تقول لويسا: الصمت يقتل، سنوات وسنوات وأنا صامته، راح الصمت يشكل عقدة داخلي، وكل شيء يصير قاتما.
وتتعلم كل منا تجاهل الأمور المؤلمة، ونعيش كنساء شكل من أشكال الجهل وعدم التعلم، وصارت معاناة لويسا مع المحاكم الروحية الكاثوليكية أشبه بإعصار إذ صارت تشعر أنها مريضة بداء الحزن الدائم، وتعلمت على مدى سنوات البكاء الداخلي الصامت، وعاشت ضحية أسى يسري في أعماقها لأنها لا تملك شجاعة المواجهة والبوح بما يعذبها، وتتحسر على الشابات والنساء اللاتي يمتن فجأة من الحزن، وهنا لا بد من تذكر رواية ثلج للمبدع أورهان باموق حيث تتناول الرواية قضية انتحار فتيات من اليأس والحزن، والقاسم المشترك بين الروايتين عشر نساء وثلج أن المرأة تدفن وتقتل في الصمت.
وبأنه يجب كسر صمت النساء كخطوة أساسية وإسعافية ليتجاوزن مفهوم الأنوثة الضيق الذي يصر المجتمع على تكبيلهن به، ومن أهم صفات تلك الأنوثة الوداعة والخجل والصمت، وبذلك تكون المرأة مجرد أنثى وليست إنسانا “له الحق بالتعبير عن نفسه وأعماقه وطريقته كجنس آخر في قراءة العالم تحديدا، عالم الرجل، الذي هو المشرع للقوانين وللأخلاق أيضا” وهو من يضع الأولوية لشباب المرأة وصغر سنها ويعتبر النساء في سن اليأس ككائنات منتهيات الصلاحية أو كائنات لاجنسية، متجاهلا “أن سن اليأس يؤثر على الرجل أكثر بكثير من المرأة.
أما سوزي فتشعر أنها عاطفية ببلاهة، وبأن الألم يأتيها من الخارج ويندس في أعماقها، وهي مولعة بإساءة الكلام عن نفسها وتتحدث عن قصة حياتها كمـا تتحدث عن مأساة وهي تشعر أنها على حافة البكاء دوما” وتشعر أنها بأسوأ حال وتقول بأنها عاشت بمفاهيم وساوس أخلاقية لا طائل منها، وكان أسلوبهـا وأسلوب جيلها في الكـلام متيبسا جدا وتتسـاءل: هـل اللغـة كفن؟ ولكن ضربات الحياة علمتها كيف تكبر وتقوى إلى أن تقول عبارتها الرائعة: لست وحيدة حين أكون وحدي. لأن المجتمع يشعر المرأة الوحيدة بأنها معاقة أو ناقصة،
لا حدود لجرأة الكاتبة ماثيلا سيرانو في روايتها عشر نساء فهي تقارن بشجاعة وتحدّ بين نظرة المجتمع للرجال المثليين وبين نظرته للسحاقيات، وتعتبر أن المجتمع بشكل عام يتقبل الرجال المثليين أكثر بكثير من تقبله للسحاقيات.
أهمية الرواية أنها تبين خطورة الصمت الذي تعيش فيه المرأة وتربي عليه الفتيات كما لو أنه أحد مقومات الأنوثة، الصمت يقتل والصمت قبر، والصمت مرض دفين ولا مجال للشفاء منه إلا بالكلام، بالبوح العميق، بالتجول في غرف الروح الباطنية بجرأة وشجاعة وبقراءة الذاكرة المختزنة في تلافيف الدماغ.
بنهاية المطاف ندرك وتدرك النساء خاصة أن كسر أغلال الصمت هو المحرر الوحيد من الدونية والوحدة وعدم الأمان والخوف والشك والنظرة السلبية للحياة وعدم القدرة على الفرح، وبأن كسر صمت النساء هو الوسيلة الوحيدة لمعرفتهن كإنسان أولا “وأنثى ثانيا”، كي يكون هناك تكافؤا “وتوازنا” في العلاقة مع الرجل، وفي الرواية دعوة غير مباشرة للرجل كي يحترم إنسانية المرأة وألا يختزلها بمجرد جسد أو رحم، فهي إنسانه مساوية له بالقيمة الإنسانية ولو اختلفا فيزيولوجيا. حين تبوح المرأة عن معاناتها وتكسر الصمت فإنها تحقق إنسانيتها وتتغلب على عصابها وحزنها وتصبح فاعلة ومعطاءة وسعيدة. تحث الكاتبة النساء على شجاعة المواجهة وأن يتجاوزن رعب القفزة الأولى نحو حرية التعبير.
عشر نساء رواية نسوية راقية بامتياز وتتمتع بجاذبية آسرة في الأسلوب. وكل الشكر للمترجم المبدع صالح علماني.
_______
*المصدر: العرب

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *