يرى فلاسفة النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت أن العالم المعاصر هو عالم سقوط العقل وأفول الرؤية العقلانية للعالم، التي بشرت بها الحداثة والرأسمالية القديمة التي كانت تحمل الحركة العقلانية الكبرى، فقد أفضت التحولات الاقتصادية والسياسية إلى حقبة عيش جديدة تمثلت أهم تجلياتها السياسية في النازية والستالينية، والاقتصادية في التايلورية التي ليست في نظرهم إلا عالم قوة النقود، والذي يسعى بلا مبدأ إلى الانتصار للمصالح المادية التي تدمر حياة العقل، كما تسعى إلى قبر الخصوصيات الثقافية والقومية باسم قيم التنوير. واختفت معها الصلة بين الفرد والمجتمع التي كان يكفلها العقل. هذا التوصيف العام للحالة التي انتهت إليها الحداثة الأوروبية دفع العديد من النقاد إلى السعي نحو إرساء منظور جديد يقوم على فلسفة اجتماعية ترى ذاتها كنظرية نقدية، فعوض أن تنخرط بالانتماء إلى المجتمع وتسلم بنظمه، لم تتردد في نقده والبقاء خارجه، لتقوم بدورها كاملاً في النقد كاشفة عن مصادر العطب الذي يلحقه، وتتوجه موضوعياً نحو تغييره.
أرسى هوركهايمر الخطوط العريضة لهذا التوجه الفكري في مقالته الشهيرة “النظرية التقليدية والنظرية النقدية”، فتح من خلالها باب النقد الجدري للوضعية التي فرضت سيطرتها على الخطاب الفلسفي لتلك الحقبة.
ويمكن إجمالاً توضيح جوانب نقد فلاسفة فرانكفورت للاتجاه الوضعي في ثلاثة: أولا: إن الوضعية كنظرية للمعرفة وكفلسفة للعلم تعد طريقاً قاصراً ومضللاً، ولا يحقق الفهم الصحيح للمجتمع وعلاقاته.
ثانياً: إن هناك نوعاً من الارتباط بين الاتجاه الوضعي وبين قبول ما هو قائم فهم يربطون بين الاتجاه الوضعي والاتجاه السياسي المحافظ.
ثالثاً: إن الوضعية يمكن أن تساعد على خلق شكل جديد من أشكال التسلط التكنوقراطي، فمفهوم التسلط وفقاً لكتاب “جدل التنوير” الذي كتبه هوركهايمر وأدورنو معاً؛ لم يعد ينظر إليه على أنه تسلط يمارس من خلال طبقة معينة، وإنما هو تسلط يتم من خلال قوة لا شخصية هي “التكنولوجيا”.
يصف آلان تورين مثل هذا النمط من التفكير النقدي الذي ميز النظرية النقدية بأنه لا يؤدي فقط إلى نقد عام للحداثة، ولكنه يمثل “تاريخاً للتخلي التدريجي عن التفاؤل الماركسي، فقبل عام 1933 كان هوركهايمر يعتقد مثل ماركس أن العمل والإنتاج سيعملان على انتصار العقل الذي يتعارض مع الربح الرأسمالي، فالتاريخ السياسي إذن، هو تاريخ التخلص من العقبات الاجتماعية التي تقف في وجه انتصار العقل، ولكن عجز الحركة العمالية ثم تصفيتها بعد ذلك وقيام الستالينية محل النازية كعامل على تدمير الفاعلين التاريخيين قد دفعه إلى التخلي عن كل صورة لمملكة الحرية”، أو الفردوس الأرضي الذي بشرت به الماركسية والإيديولوجية الشيوعية، ذلك أن هذا المجتمع كما يرى ماركيوز هو مجتمع في مجموعه لا عقلاني، “فإنتاجيته تقضي على التطور الحر للحاجات والملكات الإنسانية، وسلمه غير متحقق إلا بفضل شبح الحرب البارز أبداً للعيان، ونموه مرهون بقمع الإمكانات التي يمكن عن طريقها وحدها تحويل النضال في سبيل البقاء الفردي والقومي والأممي إلى نضال سلمي، وهذا القمع المختلف عميق الاختلاف عن القمع المميز للمراحل السابقة الأقل تقدماً عن مجتمعنا، يتم اليوم لا انطلاقاً من مستوى محدد من اللانضج الطبيعي والتقني إنما انطلاقاً من موقف قوة”.
ففي هذا السياق، تبرز التكنولوجيا والتقنية باعتبارها أبرز فاعل في ترسيخ السلطة، حيث تتعدى البعد التقني كآلية لتحديث المجتمع وتغدو إيديولوجية للقوة بيد الدولة المركزية لضبط عناصر المجتمع ذلك أنه “إزاء المظاهر الكلية (التوتاليتارية) لهذا المجتمع ما عاد ممكناً الحديث عن (حياد) التكنولوجيا، ولا عاد ممكناً عزل التكنولوجيا عن الاستعمال المكرس لها، فالمجتمع التكنولوجي نظام سيطرة يعمل على نفس مستوى تصورات التقنيات وإنشاءاتها”؛ يعني ذلك أن مسارات التحديث يتم اختزالها في بعد واحد ذي نزعة كلية استبدادية تستلب الإنسان وتختزله في الاستهلاك الذي يحكمه تجاذب عنصري الإنتاج والتوزيع المبرمجين بشكل دقيق وصارم في الآن نفسه، وفي ظل هذه الصيغة الحداثية تصبح الرقابة الاجتماعية أكثر فاعلية ذلك أنها تحتل مكانتها في قلب الحاجات الجديدة للإنسان، وهذا النمط من البناء الاجتماعي أقرب إلى البدائية من حيث الجوهر، وإن تشكل ضمن صيرورة الحداثة.
تكاد مقولة “التشيؤ” و”الاغتراب” أن تكون إطاراً لمعظم الأفكار التي يطرحها فلاسفة النظرية النقدية ونواة مركزية يدور حولها الجانب الأكبر في مناقشاتهم وتحليلاتهم للمجتمع الرأسمالي والصناعي “العقلاني” الحديث، وهي تعني أن المجتمع والبشر ليسوا في واقع حياتهم ما يمكن أن يكونوه بحسب ماهيتهم وإمكاناتهم، ذلك أنهم في الحقيقة مغتربون عن هذه الإمكانات وتلك الماهية، فالمجتمع الصناعي يكشف عن اغتراب الإنسان وتشيئه في ظواهر عديدة ومتنوعة”، من هذه الظواهر أن الإنسان قد تحول في ظل علاقات العمل الصناعية والرأسمالية إلى مجرد عنصر أو جزء ضئيل من جهاز الإنتاج الهائل وصار عجلة صغيرة مجهولة قابلة لأن يستبدل بها غيرها داخل “العالم التقني” الضخم الذي يصعب الإحاطة بشبكته المعقدة أو بالقوى التي تحرك خيوطه.
لقد تتبع بعض ممثلي النظرية النقدية وبخاصة أدورنو وهوركهايمر تأثير ظاهرة الاغتراب والتشيؤ على الفن والإبداع، وبينوا كيف انحط العمل الفني في ظل المجتمع الصناعي وظروف صناعة الثقافة وعملائها وأجهزة إنتاجها والإعلام عنها، إلى حضيض السلعة في سوق الاستهلاك والمزايدة، مما أفقده أصالته وشموله وفعله المباشر في القلوب والعقول، حيث أصبح مجرد شيء يقصد منه الاستمتاع السطحي والتسلية في أوقات الفراغ، ولم يبق أثر للعلاقة الحية بالعمل الفني ولا للفهم المباشر لوظيفته بوصفه تعبيراً كما كان يسمى يوماً باسم الحقيقة.
تشكل هذا الأسلوب النمطي من التفكير فيما يسميه أصحاب النظرية النقدية باسم “العقل الأداتي”[1] ولا ينفصل هذا الاتجاه الأداتي للعقل التقني والعلمي الحديث عن اتجاهات تتمثل في فرض المقولات الكمية على الواقع ومحاولة إخضاع جميع الظواهر والوقائع للقوانين الشكلية والقواعد القياسية، ويتضح (طغيان النزعة الكمية أو التكميم) في العصر الحاضر في المنطق الرياضي والاتجاه المتزايد إلى (ترييض) العلوم المختلفة حتى الإنسانية منها، بل في تطبيق المعايير الكمية على تقييم فرص العمل، وتنظيم السلوك في أوقات الفراغ.
إن الإنسان في المجتمع الحداثي المعقلن بالشكل الأداتي، قد تنزل من درجة السيد الباحث عن الرفاهية والسعادة إلى عبد يتقاسم العبودية مع الطبيعة تحت سيطرة التقنية العلمية ذلك أنه، “لم يعد ذاتاً بل موظفاً في خدمة التقنية: المسيرون والسياسيون والتكنوقراط أصبحوا عمالاً للتجهيز، يتم استدعاؤهم للحفاظ على أمن كلية الموجود”.
إن المعرفة العلمية التي سخرت لفهم الطبيعة والتحكم فيها تم استخدامها أيضاً للتحكم في الإنسان، بمعنى أن النظام الذي تصوره الإنسان للسيطرة على الطبيعة، تم نقله بالكامل للتحكم بالأفراد والجماعات، وهذا ما يتبادر إلى أذهاننا عند فحص مختلف التنظيمات القانونية والإدارية وأشكال الترشيد والضبط والتقنين والعقلنة لمختلف جوانب الحياة في العالم المعاصر، فكل هذه الآليات تعمل وفق نظمها ومنطقها الداخلي وتكرارها يكرر إنتاج المجتمع طبقاً لمقومات ومواصفات معينة. لذلك يلح فلاسفة النظرية النقدية على هذه الفكرة التي ترتبط “بسمات وخصائص أخرى مميزة للعقل التقني أو الأداتي، كالاتجاه لتثبيت دعائم السلطة، وتأمين علاقات القوة والسيادة في مجتمع معين، والميل إلى اضطهاد النزعات التلقائية الخلاقة والأفكار المبدعة الجسور التي تطمح إلى تجاوز المألوف والمعتاد، والعجز عن إدراك العمليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في سياقها التاريخي الشامل الذي يتخطى الجوانب الجزئية والأحداث المعزولة والنزوع إلى توحيد أساليب التفكير والحاجات وأنماط السلوك تحت تأثير وسائل الدعاية والإعلام والتسويق التي ترتبط بنظام الإنتاج والاستهلاك في المجتمع الصناعي والرأسمالي، وتؤكد مصلحته في تنميط أشكال التفكير والسلوك وحمل الناس على التكيف مع ظروف القهر والقمع التي تفرضها العقلنة والميكنة، ثم الاتجاه أخيراً إلى استبعاد القرارات الأخلاقية والسياسية من دائرة المعقول، والحط من شأنها؛ لأنها تنتمي إلى مجال اللامعقول والقرارات (الذاتية) البعيدة عن (الموضوعية).
بذلك تبينت لنا أسس وبذور انهيار العقل الأداتي الكامنة فيه والتي تولدت عنها النزعات الشمولية والاستبدادية متجسدة في النازية والفاشية والصهيونية، ما يعني أن التنوير قد دمر نفسه وانتهى إلى البربرية، ولم تأت هذه البربرية من أعداء الحضارة والإنسانية، ولا من قوى خارجية، بل جاءت من العقل نفسه، ومن ثم لم تكن “النزعة الشمولية والتسلطية في النظم المختلفة وليدة اتجاهات لا عقلية، وإنما نشأت عن (التنوير) الضارب بجذوره في العصر الأسطوري وفي منطق أرسطو، وذاتية ديكارت، بحيث لم تكن إلا النتيجة النهائية لأصول شكلية وذاتية كامنة في عقلانيته التي فتتت الطبيعة إلى موضوعات وذرات منفصلة لتحكم سيطرتها عليها، وتحكمت في عالم الفرد وأخضعته لمقاييسها الكمية ومؤسساتها الإدارية والبيروقراطية وأجهزة دعايتها وتصنيع ثقافتها الجماهيرية، ولذلك فإن عمرها أطول من عمر الرأسمالية وسائر النظم التسلطية”.
المراجع المعتمدة:
1) _عبد الغفار المكاوي، “النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، تمهيد وتعقيب نقدي”، حوليات كلية الآداب، جامعة الكويت، الحولية 13، العدد 88
2) _حسن محمد حسن، “النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز”، دار التنوير للطباعة النشر، الطبعة الأولى 199.
3) _آلان ترين، “نقد الحداثة”
4) _هربرت ماركيوز، “الإنسان ذو البعد الواحد”، ترجمة جورج طرابيشي، منشورات دار الآداب، الطبعة الثالثة 1988
5) _إريك فروم، “الإنسان بين الجوهر والمظهر، نمتلك أو نكون”، ترجمة سعد زمران، سلسلة عالم المعرفة، العدد 140، ذو الحجة 1409/1989
[1] يقصد فلاسفة النظرية النقدية ب “العقل الأداتي” أو “العقلانية التقنية”، نوعا من التفكير السائد في المجتمع الصناعي الحديث، يطلقون عليه كذلك اسم العقل الذاتي والتقني والشكلي، ويصفونه على لسان ماركيوز في كتابه الشهير بـ “التفكير ذي البعد الواحد” ويتضح هذا التفكير بأجلى صورة في أسلوب التفكير العلمي والتقني، كما تعبر عنه الفلسفة الوضعية بأشكالها المعاصرة والفلسفة البرجماتية (العملية).
______
*مؤمنون بلا حدود