أنسنة العالم


جابر عصفور

أعتقد أنني أفهم عبارة العزيز محمود درويش عن أنسنة العالم من حيث ارتباطها بنزعة إنسانية متأصلة،‮ ‬لا تتناقض مع معاني الوطنية أو القومية،‮ ‬وإنما تتكامل معها. ‬فقد كان محمود درويش مثل إدوارد سعيد‮ ‬يؤمن كلاهما أن‮ «‬الفلسطينية‮» ‬هي الجذر والأصل‮. ‬ولكن هذا الجذر أو الأصل‮ ‬يتكشف في التحليل الأخير عن الإنسان الذي ‬يتجاوب هو وأخوه الإنسان في مدى القيم الإنسانية التي تمتد بامتداد المعمورة الإنسانية‮. ‬ولذلك كان شعر محمود درويش،‮ ‬ولا‮ ‬يزال،‮ ‬يجذب إليه الأميركي والإنجليزي ‬والفرنسي،‮ ‬فضلا عن العربي على امتداد الأقطار العربية‮. ‬ويرجع ذلك إلى سبب بالغ‮ ‬البساطة مؤداه أن محمود درويش عندما‮ ‬يكتب عن نفسه أو عن الإنسان الفلسطيني كان‮ ‬يصل من الخاص إلى العام ومن المحلي إلى العالمي،‮ ‬ومن ثم من الفلسطيني إلى الإنسان،‮ ‬ففي البدء كان الإنسان،‮ ‬وفي النهاية لن‮ ‬يوجد سوى الإنسان‮.

وأعتقد أن الأمر نفسه تنطوي عليه كتابات إدوارد سعيد التي استوعبت تقاليد النزعة الإنسانية في تجلياتها الفكرية المتعاقبة‮. ‬ولذلك كان إدوارد‮ ‬ينفر من النزعات الأصولية والعرقية والشوفينية‮. ‬ويرى أن التسلط واحد، سواء ارتكبه‮ ‬ياسر عرفات أو ارتكبه بوش‮. ‬ولذلك لم تتجزأ مواقفه هو ومحمود درويش‮. ‬ولذلك كان إدوارد سعيد مثل محمود درويش‮ ‬يمايز دائماً بين اليهودية والصهيونية،‮ ‬اليهودية ديانة سماوية لها احترامها،‮ ‬شأنها شأن الإسلام والمسيحية،‮ ‬أما الصهيونية فهي عقيدة عنصرية إقصائية قمعية تقوم على‮ ‬التمييز والإقصاء‮. ‬
هكذا كان بول دي مان أستاذ النقد الأدبي الأميركي أكثر أساتذة إدوارد سعيد احتراماً له،‮ ‬وكان برنباوم المايسترو الشهير من أقرب الأصدقاء إلى عقل ووجدان إدوارد سعيد‮. ‬وقد ترك كلاهما كتاباً رائعاً للحوارات بينهما حول قضايا الفن والإبداع والموسيقى التي جمعت بينهما‮. ‬
وأذكر أن إدوارد سعيد كان المدخل الذي جعل‮ ‬ياسر عر‮فات ‬يرحب بالموسيقار اليهودي الذي حمل الجنسية الإسرائيلية حقاً،‮ ‬ولكنه لم‮ ‬يسكت عن إدانة كل جرائم إسرائيل،‮ ‬وذلك إلى الدرجة التي خلقت جبهة أعداء له في إسرائيل،‮ ‬ظلت تطالب بإسقاط الجنسية الإسرائيلية عنه‮. ‬وقد رأيت برنباوم في القاهرة،‮ ‬واستمعت إلى قيادته لأوركسترا الأوبرا، وهو‮ ‬يعزف إحدى سيمفونيات بيتهوفن،‮ ‬فأدركت لماذا كان إدوارد سعيد‮ ‬ينزله هذه المنزلة من التكريم والإعجاب‮.
‬وعلى ذكر الموسيقى أعتقد أنها أكثر الفنون أنسنة،‮ ‬وأنها بطبيعتها التجديدية لا‮ ‬يمكن إلا أن نراها النموذج الصافي للنزعة الإنسانية عندما تتحول إلى فن خالص،‮ ‬قادر على‮ ‬أن‮ ‬يخاطب البشر جميعا على اختلاف لغتهم وأديانهم وجنسياتهم،‮ ‬ففي عالم الموسيقى الصافي،‮ ‬تتخلص الروح الإنسانية من أدرانها،‮ ‬وتغدو طيفاً أثيريا‮ً ‬يتماوج في سماوات الفن التي نرى فيها الجوهر الصافي الإنساني حين‮ ‬يتخلص من كل ما‮ ‬يشوب عنصره الإنساني الأكمل‮.‬
___________
* (الاتحاد )

شاهد أيضاً

ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات في الدول الغربية؟

(ثقافات) بمناسبة افتتاح معرض لندن للكتاب 2024: ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *