*محمود شقير
خاص ( ثقافات )
الحلقة الأخيرة
1
ولم يكن أبي أمياً. كان يعرف القراءة والكتابة. استطاع جدي عبر علاقاته مع بعض المتنفذين في المدينة، أن يرسله إلى مدرسة دار الأيتام الإسلامية في القدس، باعتباره طفلاً يتيماً. مارس جدي حيلة من نوع ما وسجل ابنه في المدرسة التي داوم فيها وأقام في سكنها الداخلي سنتين. لكنه لم يحتمل الابتعاد عن العشيرة التي كانت تقيم مع قطعان أغنامها في البرية، فانقطع عن الدراسة، وعاد إلى البرية.
ومع ذلك، فإنه لم ينس القراءة والكتابة. كان في شبابه وحتى وقت متأخر من حياته، يقرأ الصحيفة وإنْ بغير انتظام. وكان يسجل في دفتره الوحيد، وقائع لها علاقة بما عليه من ديون، وبما أنفقه من مال وهو يبني غرفة لكي تسكن فيها أمينة بعد الزواج، وبما اشتراه من مواد غذائية وملابس للأسرة في هذا الشهر أو ذاك. وكان يحب كتابة الرسائل، التي تظهر فيها بعض مصطلحات أدبية أو سياسية قرأها في الصحيفة أو استمع إليها في المذياع. حينما كنت منفياً في براغ مدة ثلاث سنوات، انفتح خط المكاتبات بيني وبينه. كان يبدأ مكتوبه الذي يرسله لي من القدس بالقول: ولدنا الحبيب وولي عهدنا الغالي محمود. ولم يكن يتخلى عن هذه الصيغة التي تتخلق من حولها مشاعر مبهمة، تدفع إلى الظن بأننا متحدرون من سلالة ملكية ما. وحينما كان يندلع بيني وبينه خلاف، على تقسيم الإرث مثلاً أو على غيره من الأمور، فإن رسائله تغدو متجهمة خالية من أية إشارة إلى اسمي، بحيث لا يبقى حب ولا ولاية عهد.
غير أن غضب أبي لم يكن يصمد طويلاً، يتلاشى غضبه وتتواصل المكاتبات بيننا، أنا أكتب له رسائل مختصرة، وهو يدبج لي رسائل طويلة، ينقصها الكثير من البراعة والإتقان. ولو كنت أعرف أننا سنشهد أحوالاً سيئة كالتي نشهدها الآن، لو كنت أعرف أن أمينة سوف تتعرض للهوان، لما سمحت لأبي بأن يغادر المدرسة بعد سنتين. كنت قبضت على يده وأخذته إلى المدرسة وحذرته من مغبة تركها. كنت ألزمته بالبقاء فيها حتى سنة التخرج النهائية. كنت طالبت مع غيري من المنورين الفلسطينيين، بتوفير مدارس حديثة تعتمد مناهج دراسية تحترم العقل وتعلي من قيمة الإنسان. كنت قبضت على يد أمي أيضاً وأخذتها إلى المدرسة. كنت اشتريت لها مريولاً مدرسياً أخضر وجوربين أبيضين وحذاء، كنت طلبت من أمها أن تخيط لها حقيبة من قماش، تضع فيها دفترها وقلمها وكتابها. أمي أمضت عمرها كله وهي لا تقرأ ولا تكتب.
وأنا، مع الأسف، لم أكن موجوداً هناك حينما قرر أبي ترك المدرسة، ولم أكن موجوداً هناك حينما لم تذهب أمي إلى المدرسة. وأنا أعتقد أن هذا سبب من أسباب شقائنا الراهن. هذا سبب من أسباب الشقاء الذي كابدته أمينة.
2
في يوم عرسها، ألبسناها عباءة أبي فوق فستان العرس. قدتها أنا وأبي إلى بيت الزوجية. لم أعرف حقيقة مشاعرها. هل هي راضية عن هذا الزواج؟ هل هي متذمرة في أعماقها من الدور الذي نرسمه لها؟ لا أدري، أو لعلني أدري ولا أريد أن أصارح نفسي بالحقيقة.
حينما وضعت مولودها الأول والأخير الذي لم يعش سوى ثلاثة أيام، لم تجد عناية كافية في البيت. داهمتها حمى النفاس، ولم يعتن بها أحد. ذهب أبي إلى الزرقاء وعاد بها إلى البيت. كانت تهذي. ألحت في السؤال عني. تلك الليلة كان لدي ضيوف في بيتي في مدينة رام الله. سهرنا بعد أن تناولنا طعام العشاء سهرة ممتعة تخللها ضحك ومزاح. أثناء النوم حلمت أحلاماً مزعجة. في الصباح، جاء اثنان من أبناء العشيرة. دقا باب البيت. نهضت من النوم. فتحت الباب، قالا: أمينة مريضة وعليك أن تأتي معنا. قالا: إنها في حالة سيئة.
كانت تهذي حينما وصلتُ بيت العائلة. جلست قريباً منها في غرفتنا العتيقة، ومن حولها عدد كبير من نساء العشيرة، وعلى وجوههن حزن وأسى. قبلت جبينها. هدأتْ قليلاً، تلفظتْ باسمي ثم أمعنت في الهذيان (قالت أمي فيما بعد: أمينة لم تتلفظ بأية شتيمة ضد أحد، ولم تحمل مسؤولية ما جرى لها لأي أحد. قالت: ظلت عفيفة اللسان مع أن الموقف كان يحتمل الكثير من الكلام). نقلناها إلى المستشفى بناء على نصيحة طبيب أحضرتُه لمعاينتها. حينما ساءت حالتها كثيراً توقف هذيانها، ثم ما لبثت أن هدأت تماماً في غرفة بمستشفى الهوسبيس في القدس.
3
لو أنها قالت لا. لو أنها عرفت كيف تعبر عن مشاعرها بكلام صريح. لو أنها رفضت ما نسجناه حول جسدها من شباك. لو.
4
حملنا جثمانها في سيارة نقل صغيرة ذات صندوق خلفي. جثمانها مسجى على أرضية الصندوق وأنا واقف بالقرب منها. رحت أستذكر أيامي معها، فأجد أن مساحة التواصل بيني وبينها كانت شحيحة، بسبب الأسلوب المحافظ لحياتنا في البيت، وبسبب موقفنا الذكوري الذي يضع نساء العائلة في الظل.
تلك الليلة، نامت في بيتنا لآخر مرة. ولم أستطع النوم في البيت. أخذني أحد أبناء عمومتي إلى بيته. تناولت حبة مهدئة، ساعدتني على النوم حتى الصباح.
في الصباح، نقلناها في جنازة مهيبة إلى المقبرة. مشى الرجال خلف نعشها، ومشت النساء خلف الرجال، وهن يعددن بأصوات نائحة:
نبهن امينة واربطن عَصْبتها/ ما تنسين امينة يا بنات عَمّتها
نبهن امينة واربطن شالها/ ما تنسين امينة يا بنات خالها
أهم بالبكاء، يحاول أبناء العمومة المحيطون بي التخفيف من ألمي فأكبت البكاء. يفرغ عمي الكبير حزنه عليها بإطلاق الرصاص من مسدسه بين الحين والآخر.
ولم نرسل صورتها إلى الصحيفة اليومية. لم ننشر لها نعياً. لم نفطن لذلك في الوقت المناسب. ونحن نهيل التراب فوق جسدها، قال أبي: لو أنك ترسل نعياً إلى الجريدة. قلت له: فات الوقت. ثم صمتنا، ولا أدري الآن لماذا لم أتدارك هذا الأمر؟
ولم أقم أنا أو أي شخص ممن احتشدوا حول قبرها، بإلقاء كلمة وداع أعدد فيها بعض صفاتها الحميدة. لم أقم أنا أو أي شخص آخر بالتأسي على شبابها. اكتفينا بكلمات الشيخ الذي راح يلقنها من فوق التراب، ما الذي يتعين عليها أن تقوله إذا جاءها ملاكا الموت في ظلمة قبرها.
5
لو أنها عاتبتني ذات مساء. لو أنها سألتني عن حصتها من التواصل. لو أنها سألتني عن واجب الوفاء. لو.
6
ثلاث من أخواتي عشن في الزرقاء. واحدة منهن ماتت، وقمنا بدفنها في القدس (أمي تعتقد وهي تنقّب في ذاكرتها أنها ولدتها في فصل الشتاء، ولم تعد تتذكر إن كانت ولدتها في الليل أو في النهار). أختاي اللتان تعيشان في الزرقاء الآن محرومتان من حق الإقامة في القدس، بسبب القوانين الإسرائيلية التي تحلل ليهودي قادم من روسيا أو أثيوبيا أن يقيم في القدس، وأختاي اللتان ولدتا في القدس، واضطرتهما هزيمة حزيران إلى مغادرتها، ليس لهما هذا الحق.
أمينة ماتت قبل الهزيمة بعام.
7
ولم يبق منها سوى ذكريات ضئيلة، وصورة شخصية يبدو فيها وجهها المشرق، وعيناها العسليتان وشعرها الذي ينجدل على هيئة ذيل فرس نازل نحو صدرها. أمي ظلت وقتاً طويلاً تنظر نحو صورتها المثبتة في إطار فوق خزانة الثياب، تنظر نحو الصورة وتبكي، وحينما وجدت أن هذا الأمر لا يصل إلى منتهاه، أخفت الصورة لكي يساعدها ذلك على النسيان. اختفت الصورة ولم نعد نرى وجه أمينة ولا عينيها ولا جديلة شعرها، إلا أننا بقينا نذكرها بين الحين والآخر.
بعد خمس وثلاثين سنة من موتها، جاءت أختي الكبرى المقيمة في مدينة الزرقاء لزيارتنا ومعها صورة شخصية لأمينة. إنها نسخة مكررة من الصورة التي أخفتها أمي ثم ضاعت واندثرت.
الصورة أهدتها أمينة لأختها الكبرى وكتبت على الجهة الخلفية منها بخط يدها ترجوها أن تتذكرها دوماً. أحضرت أختي الصورة معها وأعطتها لي. ذهبتُ إلى مصور في القدس، طلبت منه أن يقوم بتكبير الصورة وبتجهيز أربع نسخ منها. أخذت الصور المكبرة إلى محل لصنع إطارات الصور، كنت أمشي في المدينة ومعي الصور، وأتذكر أمينة التي لطالما حلمت بأن تمشي في المدينة، ونحن حرمناها من تلك الرغبة البسيطة التي لا تؤذي أحداً ولا تجرح شرفاً، ولا تصيب بالعطب أية منظومة أخلاقية على وجه الأرض. طلبت من صاحب المحل أن يؤطر الصور.
عدت إلى البيت ومعي صور مؤطرة لأختي. أما المصادفة غير المتوقعة فهي أنني أحضرت الصور حينما كانت ابنتي أمينة تحتفل بعيد ميلادها السابع والعشرين.
أطلقت على ابنتي اسم أمينة لكي يستمر اسم أختي في العيش معنا، وقبل أمينة جاء طفلنا الثاني، فأطلقت عليه اسم أمين. كنت أبحث عن أية وسيلة لكي أعبر أنا ابن السياسة وحامل الأفكار الجديدة، عن بعض مشاعري تجاه أختي التي غابت وهي في الحادية والعشرين.
_________
*روائي وقاص من فلسطين