غصون رحال*
خاص ( ثقافات )
أم الدنيا تبعثر أطفالها كيفما اتفق!
خمسمائة وستون طفلا فرُّوا على متن باخرة من مصر إلى إيطاليا بطرق غير مشروعة، أكبرهم – كما صرَّحت وزيرة الهجرة المصرية – لا يتجاوز الحادية عشرة من العمر!
لعلِّي قابلت بعضاً منهم!
فوج وراء فوج من الأطفال أخذ يغزو الأراضي البريطانية على نحو غير مسبوق. أدمغتهم الصغيرة محشوَّة بقصص تكاد تكون متطابقة وكأنهم “قرأوا عند شيخ واحد”، لقَّنهم ما عليهم قوله إن هم وصلوا سالمين إلى سدرة المنتهي؛ بريطانيا!
آباء بلغ بهم اليأس ما بلغ، فزجُّوا بصغارهم في قوارب الموت، أفهموهم أنهم أيتام وأوصوهم أن يبلِّغوا يُتمهم لكل من سيقابلهم على البرِّ الآخر. صغار، ودَّعوا أوطانهم، دفء أحضان أمهاتهم، لمسة أكفِّ آبائهم، مقاعد دراستهم، شقاوة التسكُّع في الأزقَّة والحارات، مطاردة “الكورة” في الساحات الترابية، أفلام الكرتون، أغاني الحب المستهلكة، خطابات السَّاسة المثقلة بالوعود الكاذبة ورحلوا إلى مصائر لم يبصروها، وبلاد لم يخبروها، وأناس لم يألفوها.
يسردون حكاياتهم وكأنهم يتلون قصيدة حفظوها عن ظهر قلب، وينبغي عليَّ ترجمة ما يقولون كلمة كلمة بحياد تام ومهنيَّة فائقة، لا يُسمح لي في أثنائها بإبداء علامات التعجب، أو الابتسام أمام تلك الكذبات المكشوفة.
في الماضي، كانت حكاياتهم، رغم الثقوب الكثيرة التي تنخر ثناياها، قابلة للتصديق. إما أن تكون الأم قد باعت “غوايش” الذهب التي كانت تحتفظ بها ليوم أسود، تحويشة العمر التي أنهكت روحها في جمعها قرشاً فوق القرش، وهي تحدِّث نفسها: “طقّة واحدة أو بالكتير طقّتين في اليوم تكفي، أما الثالثة فهي بعزقة”! أو أن الأب تصرَّف بقراطي الأرض، ووضع ثمنهما في يد ربَّان مركب عليم بمسالك البحر وتياراته وأمواجه وأسماكه، مستودعاً الله فلذة كبده.
حديثاً، بدأت حكاياتهم تفاجئني، منهم من يدَّعي أنهم فرُّوا من جحيم الحرب في سوريا، يميتون عائلاتهم في حروب لم يروا منها سوى مشاهد على التلفزيون. أميِّز لهجتهم، وأعرف أصولهم التي يحاولون إخفاءها قدر استطاعتهم واحتفظ بسرِّهم لنفسي. ومن يعترفون بانتمائهم إلى أم الدنيا، يرددون بلسان واحد: “أصل أخويا من الإخوان ومحبوس عند الحكومة، وأنا خايف يمسكوني كمان”!
كل منهم تبقى له أخ، أو عمٌّ تولَّى دفع مصارف هجرته؛ ثلاثة آلاف دولار، ثمن مساحة لا تتعدى شبراً في شبر على متن قارب قد تحول حمولته الهائلة دون وصوله إلى شواطئ آمنة أو يابسة صلبة، فينقلب بما عليه من قطع اللحم الطرية في قاع البحر طعاماً سهلاً لأسماك شرهة… وقد يصل إلى منتهاه سالماً معافىً.
حينها، يتراكض الأطفال ممسكين بأيدي بعضهم بعضاً في سلسلة تشبه تلك التي يساقون إلى تشكيلها احتفالاً بزائر كبير يحلُّ ضيفاً على رئاسة الجمهورية، ويهرعون باتجاه قوات حرس الحدود في إيطاليا، التي تسلمهم للسلطات الإيطالية التي تزج بهم في مراكز الأحداث.
يهربون، يضيعون في شوارع إيطاليا، يجوعون ويتسولون، يقضون لياليهم في بيوت الله، يجمعون ثمن تذكرة قطار ينقلهم عبر الحدود إلى فرنسا، يمضون أشهراً في التسكع والتسول، يشيرون للحافلات المتجهة شمالاً، ينجحون في الوصول إلى “كاليه” القابعة على بحر المانش الفاصل بين بريطانيا وفرنسا، بغاباتها ومخيماتها ومواقف الشاحنات العملاقة، برجال حرس الحدود وكلابهم التي لا تخطئ أنوفها المدرّبة رائحتهم. يتصيّدون الفرصة للتسلل إلى بطن إحدى تلك الناقلات، يفشلون ويعيدون الكرّة مرة بعد مرة، ينجح من ينجح في الاختباء بين الشقوق الصغيرة الفاصلة بين الصناديق المتراصة داخل الشاحنة. يحبسون أنفاسهم كي لا يصل لهاثهم إلى أسماع سائق الشاحنة، تتوقف قلوبهم عن الخفقان كي لا يزعج دويها أكوام البضائع الغافية في صناديقها.
في بريطانيا، يسألونهم: لماذا لم تطلبوا اللجوء في إيطاليا أو فرنسا؟
يتمترسون خلف إجابة واحدة: “سمعت إن بريطانيا بلد حلوة!”.
أترك حيادي ومهنيَّتي جانباً، ابتسم لهذه الإجابة الاسترضائية الخبيثة، وأقرأ ما يدور في رؤوس الإخصائيين الاجتماعيين: “بل لأن بريطانيا لا تردّ الأطفال، تتكفل بإقامتهم وإطعامهم، وكسوتهم، تعرضهم على الأطباء، تتأكد من سلامة أجسادهم، وأسنانهم، وبصرهم وسمعهم، تجد لهم مقاعد في المدارس والكليات، تمنحهم معاشاً أسبوعياً يتدبرون به حاجاتهم الأساسية…”.
واقرأ ما يدور برأسي: يا “قطاقيط” لو تعلمون أن حلاوة هذا البلد لن تدوم طويلاً!
بيعي “الكردان” يا مصر واستردِّي صغارك!
* روائية أردنية