أوس داوود يعقوب
يقدم جان دوست نفسه بالقول: أنا مواطن كردي سوري هربت من هجير الوطن إلى ظلال المنفى. عشت خمسة عشر عاما أصحو في كل يوم على حلم العودة مرة إثر أخرى. ولما ظننت أنني أصبحت قادرا على العودة اختفى الوطن واختفت مدينتي التي ولدت فيها وعشت سنين طويلة. ولدت في كوباني (عين العرب) عام 1965 ودرست فيها حتى التحقت بجامعة حلب كلية العلوم. تركتها في السنة الثالثة ومذّاك لا عمل لي سوى الكتابة. عام 2000 هاجرت إلى ألمانيا التي أقيم فيها وأتمتع بجنسيتها.
الرواية بحر
عن حضوره اللافت في المشهد الروائي الكردي الذي تحقق منذ صدور روايته الأولى “مزآباد” (مدينة الضباب). يقول دوست: حقيقة فوجئت بالاحتفاء الكبير بالرواية الأولى فور صدورها. ربما يعود سرّ الاهتمام برواياتي إلى محاولاتي المتكررة للنبش في الذاكرة الكردية، ونفض الرماد عن المنسي والمتروك والضبابي في التاريخ الكردي. أتبعت روايتي الأولى برواية “ثلاث خطوات ومشنقة” التي أنهيت ترجمتها بنفسي إلى العربية قبل أيام، وهي تتحدث عن ثورة الشيخ سعيد عام 1925 ضد أتاتورك. ثم صدرت “ميرنامه” و”مارتين السعيد”.
وعن روايته الأخيرة “عشيق المترجم” والتي رأى النقاد أنه “يمكن اعتبارها بحق رواية ثقافة التسامح بامتياز”، يعلق قائلا: نحن نعيش في عصر تذابح قومي ديني طائفي أسود. نعيش فصلا قاسيا من تاريخ الشرق. للأسف يتم استحضار التاريخ بأبشع صوره. لذلك قلت عليّ أن أشعل شمعة في هذا الظلام. فليس من الضروري أن تتقاتل القوميات المتجاورة والأديان. بل يمكن لها أن تتعايش إذا كانت هناك رغبة قوية لدى جميع الأطراف وفهم عميق لقيم السلم والتسامح.
ويتحدث صاحب “مزآباد” عن نشأته في عائلة دينية وأثر ذلك على إتقانه للغة العربية، والمزاوجة بين ثقافتين، عربية وكردية، فيقول: كان لنشأتي دور كبير في إتقاني اللغة العربية. والدي درسني أصول النحو وأنا فتى صغير لم أكمل الخامسة عشر من عمري. فتحت عيني في بيت ترددت فيه صدى أشعار المعري والمتنبي ونزار قباني ومحمود درويش إلى جانب الشعراء الأكراد من أمثال أحمد خاني والجزري وجكرخوين. أنا مزدوج الثقافة ولا أفضل ثقافة على أخرى بل أجد نفسي مدينا لهما بنفس الدرجة وغالبا ما أعتبر اللغة العربية أمي بالرضاعة. لقد وجدت في ظلال الثقافة العربية كل ما تحتاجه روحي من طاقة.
ويعود بنا الروائي والشاعر جان دوست إلى ذكريات الطفولة وقصته مع القصيدة العربية الأولى التي كتبها وهو في العاشرة من العمر، “كتبتها تقليدا لشقيقي الأكبر مني. وبدأت بخربشات وبقيت أخربش حتى صار عمري خمسة عشر عاما فكتبت قصيدتي الأولى بالكردية. كتبت قصائد كثيرة غلب عليها الطابع العاطفي والقومي. لم أخض تجربة شعرية مثيرة، لكنني تذوقت الشعر وحفظته كالنار في روحي”.
ونفتح مع صاحب “ثلاث خطوات ومشنقة” ملف الرواية وسبب اهتمامه بها على حساب الشعر وهو الذي بدأ مسيرته شاعرا، فإن الرواية قد حلت مكان القصيدة وأصبحت ديوان العرب والأكراد أيضا، ليجيب ضيفنا: الرواية بحر يمكن لجميع السفن أن تبحر فيه. انتقلت إلى بحر الرواية وحملت معي من الشعر أدوات كثيرة، شيّدت سفينتي من خشب الشعر واستعملت مجاديف الشعر. لم أكتب الرواية لأن الرواية حلت محل القصيدة بل لأنني بحاجة إلى بوح طويل وبناء عالم خاص بي قوي واسع الآفاق. لم يستطع الشعر أو لنقل لم تستطع قصائدي أن تنقل همّي كما أريد فلجأت إلى باب الرواية وأظنها لم تخذلني.
وعن معنى قوله “كانت الكتابة بالكردية نوعا من النضال بالنسبة إلي”، يبيّن جان دوست أن “اللغة الكردية كانت مقموعة في المدارس الرسمية، حتى أن الأكراد كانوا ممنوعين من التخاطب بها في الدوائر والمدارس وغيرها. ناهيك عن منع طباعة الكتب باللغة الكردية، من هنا أقول إن مجرد الكتابة باللغة الكردية كان نوعا من النضال شاركني فيه فرسان كثيرون. كنا نطبع دواوين الشعر والروايات والقصص باللغة الكردية بإمكاناتنا الفردية الضئيلة، ونقوم بتوزيعها بأنفسنا في أجواء بوليسية صعبة جدا. صودرت كتبنا وتمّ إيقافنا والتحقيق معنا مرارا، لكننا لم نتخلّ عن لغتنا والتعبير بها وحمايتها ومحاولة تطويرها”.
الرواية والترجمة
نسأل الروائي جان دوست عن رأيه في مقولة إن “عالم السرد والرواية يعيش عصره الذهبي”، وهل مازالت الفنون السردية محتفظة بقدرتها على الإدهاش والتأثير؟ يجيب: أنا بقناعتي الإنسان روائي بطبعه يميل إلى السرد، إنسان الكهوف كان مثلا مغرما بالسرد. سرد رواياته بالصور على جدران الكهوف. حكى لنا عن خوفه من الحيوانات المفترسة ومحاربته إياها، حكى لنا عن كيفية قيامه بالصيد، سرد لنا مشاهد جميلة عن حياته واتخذ جدران الكهوف لينشر ما أراد سرده. أريد أن أقول إن الرواية موجودة منذ آلاف الأعوام، أما موضوع أن الرواية تعيش عصرها الذهبي الآن فهذا يعود إلى سلطة دور النشر التي تتسابق على نشر الروايات وتهمل باقي الأجناس الأدبية. أعرف دار نشر مرموقة اتصلت بها عدة مرات لنشر ترجمات شعرية وقصصية، فكان الجواب “إننا سننشر رواية مترجمة بكل سرور أما الشعر فاعذرنا لعدم نشره”. لكن يمكن القول إن الرواية تطورت بشكل هائل في العقود الأخيرة وتجاوزت مرحلة الحداثة وتعددت أشكال السرد واللغة الروائية وهنا فعلا تعيش الرواية عصرها الذهبي.
ويحدثنا دوست عن “الرواية الكردية” ومدى حضورها في المشهد الثقافي العربي والعالمي، فيقول: هناك رواية كردية باللهجتين الكرمانجيتين الشمالية والوسطى.
في الكرمانجية الشمالية، سوريا وتركيا، برزت أسماء كثيرة مثل محمد أوزون ومحمود باكسي، بافى نازي، شاهين سوركلي، حسن مته، فرات جوري، رمضان آلان، يعقوب تل أرمني، سليمان دمير ورضوان علي وفواز حسين وآخرين كثيرين خاصة في تركيا بعد رفع الحظر عن اللغة الكردية منذ أوائل التسعينات. أما في الكرمانجية الوسطى فقد برزت أسماء لامعة كثيرة منها عطا محمد، عطا نهايي، بختيار علي، شيرزاد حسن، ماردين إبراهيم وغيرهم. ولا تختلف الرواية الكردية عن مثيلاتها وجاراتها العربية والفارسية والتركية إلا من ناحية الانتشار. فالرواية الكردية لم تنتشر عبر الترجمة كثيرا وهي تعاني من انحصارها في بيئاتها المحلية.
وعن مهمة الروائي ودوره في “طرح الأسئلة” أو “التبشير بالنهايات السعيدة”، يقول صاحب “مارتين السعيد”: أن تطرح أسئلة يعني أنك تحفز العقل على الحركة. تخرج الوعي من حالة الكمون والسكون وتشعل بنار الفضول هشيم الخيال. أما النهايات السعيدة فالتبشير بها يختلف من كاتب إلى آخر.
أنا على العموم شخص متشائم. لا أؤمن بالنهايات السعيدة. لأنني قرأت التاريخ جيدا وأعرف أن بضعة أشرار يستطيعون التحكم بملايين البشر ولمدى عقود طويلة. اليوتوبيا التي يتخيلها بعض الناس في حياة هانئة سعيدة للإنسان قد تبقى حلما. لكن على الأقل يجب على الإنسان أن يكافح من أجل مستقبل أفضل. فالأوروبيون، الغرب عموما وصلوا إلى صيغ مقبولة لحكم الناس ونشر الرفاهية والضمان الاجتماعي من خلال قوانين وضعية منصفة أكثر من بعض القوانين الدينية التي لا يهمّها تبدل الزمان والمكان”.
وننتقل بحديثنا مع جان دوست، من عوالم الرواية إلى عالم الترجمة، هو الذي يرى أنه لم يقدم خلال مشواره الأدبي إلى الشعب الكردي خدمة أفضل من ترجمة وشرح “مم وزين” بالكردية. ويضيف: إن “مم وزين” هي ملحمة الأكراد. وهي خلاصة الثقافة الكردية في القرن السابع عشر، وهو القرن الذهبي للأدب الكلاسيكي الكردي.
وعن دوره كمترجم وما قدمه للثقافتين الكردية والعربية من خلال تعاونه مع مشروع “كلمة” للترجمة، التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، يقول: بدأ التعاون مع مشروع “كلمة” الرائد من خلال المترجم الأخ كاميران حوج ونقلنا إلى العربية بضعة كتب منها رواية “متاهة الجن” للروائي حسن مته، وكتاب “رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم” وكذلك رواية “ميرنامه” ورواية “العاجز” لصلاح الدين بولوت التي ترجمها مروان علي، كذلك ترجمت الشاعرة خلات أحمد كتاب “المرأة في الفولكلور الكردي” للكاتب روهات آلاكوم. مؤخرا وبالتعاون مع الشاعر والمترجم مروان علي نقلنا رواية “مارتين السعيد” من الكردية إلى العربية. مشروع “كلمة” مشروع هام جدا ويترجم من عشرات اللغات ولحسن الحظ فإن اللغة الكردية هي إحدى هذه اللغات.
ولجان دوست نظرة خاصة للترجمة حيث يقول “الترجمة ليست فقط جسرا تعبر عليه الثقافات والآداب إلى الضفاف المقابلة، بل هي جسر تلتقي القلوب في منتصفه وتتصافح الأفكار وتتلاقح على حوافه. إنها جسر هام جدا لإزالة الصور النمطية والأحكام مسبقة الصنع التي رسخها الجهل وعمَقتها الأحقاد”.
فالترجمة، عنده، ضرورة معرفية، ونوافذ لا بد منها لتتنفس اللغات. ودونها ستبقى اللغات حبيسة غرف بلا نوافذ وتختنق بكل تأكيد. لذلك ركز على الترجمة في نشاطه الأدبي.
الأكراد والثورة
وننتقل مع الشاعر والروائي جان دوست بحديثنا من الأدب إلى السياسة، فهو من أوائل المثقفين الأكراد الذين أعلنوا موقفهم بوضوح من النظام وانحيازهم لثورة الشعب. مؤكدا في البدء أنه في زمن الحروب لا يمكن للعقلاء والفلاسفة والمثقفين الحريصين على دم الإنسان أن يفعلوا أيّ شيء سوى بعض الصراخ.
يقول: الصراخ فعل إيجابي وهو أضعف الإيمان. الكارثة في السكوت الذي يمارسه قطاع كبير من المثقفين الذين يخافون على مصالحهم الضيقة. الصراخ لا يعني غياب العقل. إنما هو في تفسيري تفكير بصوت مرتفع ومسموع على الأقل.
ويؤكد دوست أن الأكراد لم يستطيعوا الاتحاد في هذا المفصل الهام من مفاصل تاريخ سوريا والأكراد، ولم تستطع الثورة توحيد الأكراد حول ثوابت معينة.
ويرى محدثنا أن مشكلة الكردي السوري أنه يستعير نظارات إخوته في الشمال والشرق ليقرأ بها. تلك النظارات قد تناسب عيون إخوته وتفيدهم في القراءة لكنها بلا شك نظارات ستعميه إذا أطال استعمالها. ويؤكد أنه على الكردي السوري ألا ينسى خصوصيته ولا يتقمص أهداف إخوته الأكراد في الأجزاء الأخرى.
وعن أسباب عجز المثقف الكردي عن التأثير على المشهد السياسي الكردي. يقول جان دوست: المثقف الكردي في الغالب يدور في فلك الأحزاب الكردية للأسف. لم يستطع المثقف الكردي حتى الآن تشكيل مؤسسات مستقلة عن الأحزاب الكردية وفكرها المتخلف. المثقف بدل أن يصبح مرآة لنفسه ولفكر ثوري ناقد، أصبح مرآة عاكسة للأحزاب الكردية.
——
العرب