كيف بدأت توني موريسون طريقها نحو الكتابة؟

كيف بدأت توني موريسون طريقها نحو الكتابة؟

اختيار وترجمة: سارة حامد حواس

كنتُ قارئة قبل كل شيء.

تعلَّمتُ القراءة في عمرٍ صغير للغاية، ثلاث سنوات فقط. وكان لذلك معنى خاص في عائلتي، إذ كانت لدينا حكايات كثيرة عن جدِّي الذي، كما كان يُروى، كان يقرأُ الكتاب المقدَّس كاملًا خمس مرات في كل عطلةٍ من الأعياد. كنا نفخرُ بذلك كثيرًا، لكننا كنَّا نعرف، خصوصًا والدايَّ، أن هناك عقودًا من الزمن لم يكن يُسمح للأمريكيين من أصول إفريقية بتعلُّم القراءة أصلًا. وعندما كانوا يقولون “مدرسة”، كانوا يقولونها دائمًا بين علامتي اقتباس، لأن تلك المدارس كانت في أزقَّةٍ صغيرة، أو في الحقول، أو تحت الأشجار. ويُقال إن جدي الذي عُرف بقدرته على قراءة الكتاب المقدَّس ذهب يومًا إلى إحدى تلك المدارس ليقول للمعلمة إنه لن يعود، لأنه قرر أن تتولَّى أخته تعليمه القراءة، ويبدو أنها فعلت ذلك حقًا.

بدأتُ أتساءل بعد ذلك: لماذا كان يقرأ الكتاب المقدَّس خمس مرات؟ ثم أدركتُ أن السبب بسيط، لأنه كان الكتاب الوحيد المتاح لديهم. فلم تكن هناك مكتبات، ولا كتب تُشترى، ولم يكن هناك من يُعلِّمهم شيئًا. لذا اضطروا أن يتعلَّموا بأنفسهم.
منذ ذلك الوقت صار لتعلُّم القراءة واقتناء الكتب معنى كبير في حياتنا.
انضمت أمي إلى نادٍ لشراء الكتب، وكان ذلك حدثًا مهمًّا في البيت. لم يتعاملوا مع القراءة كترفٍ، بل كأمرٍ بديهي وضروري، وأصرُّوا على أن يمنحونا المساحة التي نحتاجها إلى القراءة. كنتُ قارئة نهمة منذ صغري، وكنت أعتقدُ أن كل شيءٍ يستحق أن يُكتب قد كُتب بالفعل، وأن عليَّ فقط أن أجد السبيل للوصول إليه وقراءته.
حصلت بعد ذلك على عملٍ في المكتبة بفضل أختي الكبرى. كنت أدفع عربات الفهرسة من ممرٍ إلى آخر، وأتوقَّف كثيرًا للقراءة حتى كادوا يفصلونني! ثم قرروا نقلي إلى قسم الفهرسة لعلِّي أقلِّلُ من انشغالي بالقراءة. كانت تلك الحياة الحقيقية بالنسبة لي: العمل مع الكتب، وقراءتها، والعودة إليها مرارًا.
ثم، جاءت وتيرة الحياة المُعتادة، وظيفة التدريس، والأطفال، والمسؤوليات، والزوج، ثم دعوة غريبة،فقد دعيتُ يومًا إلى نادٍ للكُتَّاب في واشنطن العاصمة. كان يضم مجموعة من الكُتَّاب الهواة وبعض المعروفين. كانوا يجتمعون مرة كل شهر. لا أذكرُ كيف دُعيت بالضبط، لكنني ذهبت، وكان لديهم أفضل مائدة طعام يمكن تخيُّلها! وهذا وحده سحرني تمامًا.
أحضرت معي مقالة صغيرة كنت قد كتبتها خلال مرحلة الجامعة، وقرأوها وقالوا: ”هممم، جيد”. ثم أدركتُ أنني لن أُدعى للطعام مجددًا إلا إذا جئت بشيءٍ جديد أقدِّمه.
عدت إلى البيت أفكر: ماذا أكتب؟ ابني الأكبر كان قد بدأ يمشي وكان يتشبث بي كما يفعلُ الأطفال دائمًا، يلتصقون بك، ويشدُّون طرف ثوبك، ويتدلُّون منك. وبينما أحاول التفكير في موضوعٍ أكتبه، تذكرتُ مشهدًا من طفولتي ظلَّ راسخًا في ذاكرتي، ليس فقط لأنه حدث، بل لأنَّه كيف يعني لي، فبدأت أكتب. ومن تلك اللحظة نبتت رواية ”العين الأكثر زرقة”.
أتذكَّرُ ذلك أكثر مما أتذكَّر تفاصيل الكتاب نفسه. كنت أكتبُ بالقلم الرصاص على أوراق صفراء، وابني يلعب قريبًا مني، ثم فجأةً بصق قليلًا من عصير البرتقال على المخطوط، لم أمسح البقعة، لكني كتبت حولها!
كانت الفكرة عندي واضحة: يمكنني دائمًا أن أنظف الورقة، لكن الجملة التي أفكر بها الآن قد لا تعود. ومنذ تلك اللحظة بدأ الأمر يثيرُ اهتمامي حقًّا.
استغرق الأمر سنوات لأُنهي الكتاب، فقد كنت أدرِّسُ، وأرعى الأطفال والأسرة، وأحاول التوفيق بين كل ذلك.
حتى اليوم، بعد كل هذه السنوات والكتب، لم أفقد ما هو جوهري فيَّ: ”خيالي”. فلا يزال متوهجًا، وحيًّا، ورائعًا كما كان دائمًا، بل ربما صار أعمق الآن.
كل تلك القراءات في طفولتي، ومراهقتي، وجامعتي، ودراساتي العليا، ثم تلك الدعوة إلى مجموعة الكُتَّاب جعلتني أدرك أمرًا حاسمًا: كان هناك ”كتابٌ لم يُكتب بعد”، وكنت مصرَّة على قراءته، والطريقة الوحيدة لأن أقرأه، كانت أن أكتبه أنا.
ظننت حينها أن الكتاب مدهش، لكنه بدا خارج التيار العام. لم أكن أفكر في ذلك أصلًا، فكان بالنسبة إليَّ قصة فقط.
قصةٌ تعود جذورها إلى تلك الصديقة المقرَّبة من طفولتي في مدينتي لورين، أوهايو. كنا في نحو الحادية عشرة، وحدث بيننا شجار صغير: قالت لي إن الله غير موجودٍ، فقلتُ بل هو موجود. لكن كان معها دليل، وأنا لا. قالت إنها كانت تصلِّي لعامين كاملين كي يمنحها الله عينين زرقاوين، لكنه لم يفعل، وكان ذلك كافيًا بالنسبة إليها لتثبت وجهة نظرها.
ما زلت أتذكر تلك اللحظة. نظرت إليها، كانت بشرتها سوداء كالليل، وفكرتُ أنها ستبدو قبيحة جدًا بعينين زرقاوين. وفجأة، ولأول مرة، رأيتها جميلة. لم نكن نستخدم كلمة “جميلة” كأطفالٍ، كنا نقول “لطيفة” أو “ظريفة”، لكن وجهها كان شيئًا آخر: عينان لوزيتان، ووجنتان مرتفعتان، وشفتان مذهلتان. كانت مبهرة ببساطةٍ، وأدهشني أنها تشعر بالحاجة إلى أن تكون إنسانة أخرى.
كانت تلك اللحظة هي بذرة الرواية.
بدأت أتساءل: ”كيف وصلتْ إلى هذا الإحساس؟ من قال لها إن عليها أن تكون مختلفة؟ ولماذا صدَّقت ذلك؟” ومن الذي علَّمها أن تتمنى ما يؤذيها؟ ربما نحن، الأطفال الآخرون، شاركنا في ذلك بطريقةٍ ما عندما سخرنا منها أو أبعدناها.
وهكذا بدأت ”العين الأكثر زُرقة”.
وعندما انتهيتُ منها وأرسلتها إلى النشر، جاءني رد لطيف من أحد الناشرين يقول:
“شكرًا جزيلًا، لكن هذه الرواية لا بدايةَ لها ولا وسط ولا نهاية.”
هذه الرسالة عادةً ما تكون كافية لإحباط أي كاتبٍ. لكنني كنت أنتمي إلى عائلة عنيدة لا تستسلم بسهولةٍ. لذلك أرسلتها إلى نحو اثنتي عشرة دار نشر أخرى. معظمهم قالوا شيئًا مثل: ”ليست سيئة، لكن شكرًا لا.”
إلى أن وافق ناشر في هولت على طباعتها، ربما لأن كتاب ”فتى زنجي في أرض الميعاد”، كان قد صدر حينذاك وفتح الباب قليلًا أمام الأدب الأسود، فرأى المحرر أن دار النشر قد تربح دولارين من نشر شيء مشابه!
في ذلك الحين كنت أعمل في دار نشر صغيرة بسيراكيوز، ثم اشترتها ”راندم هاوس”، وانتقلت إلى نيويورك. لم أرد أن يعرفوا أن لديَّ كتابًا منشورًا، لأنني كنت أرى نفسي محرِّرة لا كاتبة، وظننتُ أن هذا قد يربك الأمور. لكنهم اكتشفوا الأمر بالطبع، وعُرضت عليَّ وظيفة إما في ”راندم هاوس” نفسها أو في دار ”نوف”، وهي كانت بمكانة الميدالية الذهبية في عالم النشر.
ذهبتُ لأقابل مدير نوف آنذاك، روبرت جوتليب وقال لي:
”لا أريد أن أكون مديرك لأنني مضطرُّ حينها أن أملك صلاحية فصلك، لكنني أودُّ حقًا أن أكون محررك.”
ومنذ ذلك اليوم، بقي محرري وصديقي في كل كتبي.

مقطع لمقال مطوَّل عن الكتابة للروائية الأمريكية توني موريسون الحائزة على جائزة نوبل في الآداب عام (١٩٩٣)

شاهد أيضاً

في النص ما يكفي من ذكاء

في النص ما يكفي من ذكاء لمحة عن كتاب “ليس في النص ما يكفي من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *