اسكندر حبش
صدر خلال الأيام القليلة المقبلة الترجمة العربية لكتاب الروائي الإيطالي إري دي لوكا «باسم الأم» وقام بنقله عن الإيطالية إلى العربية نزار آغري (عن منشورات الجمل). ننشر هنا «الملحق» الذي كتبه اسكندر حبش للكتاب.
يبدو الكاتب الإيطالي، إري دي لوكا، واحداً من الاستثناءات النادرة والسعيدة لقاعدة «الكتّاب المتعلمين»، المقيّدين بفضاء طاولات عملهم الضيق، بكونه عاش دائماً تحت شارة «النزوح». نزوح، يبدو سمة لانتماء فاشل أو مرفوض أو حتى مستحيل.
لقد وسمت تجربة هذا «المنشقّ» ـ وفي الوقت عينه – حياته وكتاباته، إذ ارتكزت حول ما يمكن لنا أن نسمّيه «حنيناً فرضياً»، أي أنه حنين لا يمسّ فقط ما كان عليه الأمر، وإنما ما يمكن له أن يكون عليه؛ بمعنى أن الذاكرة تصبح حينذاك، أكثر من مستودع أرشيف، بل لنقل هي مكان لإبداعات لا تتوقف. تنبثق دوماً من «قلب الكاتب الفرضي»، على قول الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا.
«تكمن مهمة الكاتب أيضاً في إعطاء الماضي، احتمالاً آخر، ذكاء آخر»، يقول دي لوكا حول قضية استعمال الذاكرة في عمله. ومع ذلك، فإن سيرته الذاتية (1)، ليست فارغة من الأحداث: النضال مع اليسار المتطرف (جماعة «النضال يستمرّ»)، السنون العديدة التي قضاها خارج بلاده (في فرنسا وإفريقيا)، اختيار مهنة يدوية (عامل بناء)، تعلّم اللغة العبرية والاقتراب من الكتابة التوراتية، من مصدرها. بيد أن بُعد الانشقاق يكمن في هذا الامر فقط: «اجتياز كلّ شيء من دون الرغبة أو القدرة في البقاء في أي مكان محدد».
في مدينة نابولي (حيث ولد العام 1950)، كانت أولى تجاربه في الانتماء التي لم يستطع الإمساك بها. ففي هذه المدينة المتفردة بشكل كبير، الموسومة «بهذا المزيج ما بين الورع والقرف. هذا المزيج الخاص الذي تفوح منه رائحة السمك المنزوع الأحشاء وما بين البخور الذي يفوح من على مذابح الكنائس»، يشكل له مسقط رأسه «مصدراً» لم يستطع الانتساب اليه «منذ البداية، وكنت في الثامنة عشرة، شعرت بنفسي مطروداً من نابولي، ومع ذلك، عندما أتذكّر ذلك كله، أشعر بامتنان لهذه المدينة، لأنني لم اكن أرغب في أن أكون مطروداً من مدينة أخرى».
طفولة «نابوليتانية» عديمة المعنى إذاً، «صامتة وبدون حنان. صحيح أن والديّ اختارا بعضهما بعضا، لكنهما لم يقعا في الحب أبداً. كان والدي يحمل دكتوراه في الاقتصاد، ويعمل في مجال تجارة الفواكه والخضار، أما والدتي فتعمل في التجارة بدورها. وكما العديد من العائلات، تعرّضا لمثل ما تعرضت له الطبقة البورجوازية من فقر، بسبب الحرب (العالمية الثانية) ومن ثم الاحتلال الاميركي. إذ إن نابولي، التي عاش فيها العديد من الملوك، أصبحت أشبه بمستعمرة، لأن المرفأ، وهو مركز الغنى الرئيسي لنابولي، أصبح قاعدة الحلف الأطلسي في المتوسط».
لم تكن طفولته مليئة بالفضاءات بل اقتصرت على تلك الغرفة، في بيت العائلة، التي ملأها بالكتب. منذ تلك الأيام، «بدأت بالقراءة، قرأت في البداية كل الكتب التي تتحدّث عن الحرب العالمية، رسائل المحكومين بالإعدام، قصص الناجين من غرف الغاز»… في هذه الغرفة، بنى «تربيته العاطفية» (فيما لو استعرنا عنوان رواية الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير)، المعادية للفاشية إذ أعطته هذه القراءة «شرعية الصمت الداخلية». من هنا أخذ الكتاب شكل «تلك المادة العازلة ما بيني وما بين المدينة، اكتشفت غينسبرغ، همنغواي، شتاينباك، كامو. وهذا الأخير، وضع الكلمات في فمي، علّمني كيف أعبّر عن عواطفي. في ما بعد، وبشكل متأخر جداً اكتشفت مارغريت يورسنار، أنها تكتب بشكل رائع جداً».
كان والده يرغب في أن يكون ابنه ديبلوماسياً، فأرسله إلى مدينة «غرونوبل» الفرنسية لتعلّم اللغة. بيد أنه كان للكاتب مُثل أخرى، إذ وبعد أن حاز «البكالوريا» العام 1968، هرب من المنزل، وسافر بالقطار إلى روما ليشارك في أولى المظاهرات التي كانت تطالب برحيل الأميركيين عن فيتنام كما برحيل الجنرالات عن اليونان: «وجدت نفسي داخل جيل من المتشردين الذين علموني كيف أفتح فمي. بالنسبة إلينا، كانت الشيوعية هي القاسم المشترك، إبداع طريقة للعيش، تجربة حياة مشتركة. كانت شيوعية لا تنام مطلقاً».
إذاً، وجد دي لوكا منزلاً في النضال، بعيداً عن نابولي «كانت هذه المدينة بالنسبة إليّ قضية وسبباً في عدد كبير من ردّات فعلي العصبية، من مشاعري العدوانية. إنها أيضاً السبب في شعوري الدائم بـ «عدم التطبيق». تبدو كلمة «عدم التطبيق»، كلمة غريبة، إذ تمثل عادة قانون إصلاح أو سيرورة ما. لا يقول الكاتب كلمة أخرى، إذ، عادة، يختارها بنفسه، أي يكون واعياً لكل رنينها الدلالي. «عدم التطبيق»، كلمة مستعارة من مستوى آخر للغة، لكي يصف عبرها، المصير الفردي، في البداية ومن ثم المصير الجماعي.
في واقع الأمر، ومنذ فترة مبكرة، حمل دي لوكا، «عدم التطبيق» هذا، داخل وطن خيالي: وطن أولئك الذين كانوا مثله ـ أي في الثامنة عشرة في العام 1968 – وهذا الوطن الخيالي، سرعان ما أصبح مكاناً آخر لا يُعاش فيه، إذ تشظّى هذا الوطن، دفعة واحدة في نهاية السبعينيات، ليدفع بمواطنيه في كلّ الاتجاهات: إلى السجون التي ابتلعت الطوباويين (الذين أصبحوا إرهابيين)، إلى المنفى، أو الذين دفعهم إلى التقاعد باكراً «والذين انهمكوا فيما بعد بالبحث عن نقاط استدلال او ضمانة ما».
كان واحداً من جيل تبدّى أنه جيل «عدم التطبيق». جيل عاش طويلاً داخل العدوانية وفي الابتعاد عن جوازات الأشياء، فيما بعد، لم ينجح في الانخراط بالواقع. هناك استثناءات بالطبع، لكنهم أناس كان باستطاعتهم تبوّء مراكز ومسؤوليات وسلطة. المهم في نهاية الامر، أنه جيل «عدم التطبيق»، لذلك: «أحمل في داخلي حزن العديد من الأشخاص الذين قاسموني خياراتي ومسؤولياتي السياسية وهم اليوم إما في السجن وإما مشتتون في المنفى. هنا يكمن شعوري بعدم الانتماء هذا، إذ لطالما استمرّ هؤلاء في قيادة ذلك الوجود المعلق، الرهين الذين هو نتيجة أعمال متكاملة لطالما شعرت أنني لا أستطيع الانتماء إلى أي شيء».
من هنا نجد أن حتى الانتماء الرمزي لذاكرة جماعية، تبقى قضية مستحيلة عند دي لوكا، لأن كلّ شيء يبدو وكأنه لا يزال يمرّ تحت شارة «عدم التطبيق» هذا، الذي صوّره منذ روايته الأولى « Non ora, non qui » (ليس الآن، ليس هنا). جملة مستعارة من الخطاب الأمومي. خطاب مؤسس على السلب المزدوج (ليس.. ليس) الذي هو نتيجة أخيرة لسلبية الواقع ذاته.
في أي حال، نرى في هذه الرواية، أن كلّ تشكل لأي لحظة من لحظات الوجود، تحدث عبر صيغة الشرطية. ففي نهاية الكتاب، نجد «البطل» العجوز، يتخيّل لقاء مع والدته في صورة تظهره شاباً بعد بينما هو في طريقه لاجتياز الشارع بالقرب من حافلة نقل. عبر الخيال، ينزلق إلى داخل هذه الحافلة ليثبت مرة أولى وأخيرة في اللونين الأسود والأبيض. إنّه يخترع اللقاء الوحيد الممكن مع والدته، بالأحرى مع الواقع نفسه».
حتى منزل الريف الذي كان سيقع وينهار، حيث تجري أحداث كتاب «Aceto, arcobaleno» («أسيد، قوس قزح»)، يبدو وكأنه المكان الوحيد الممكن للقاءات مستحيلة. في هذا المكان الفرضي، الموجود من دون أن يكون بحاجة إلى ذلك، نجد الشخصية الرئيسة تنغلق على نفسها «وهي تستمع للعالم الذي فاتها». هناك، يزوره ثلاثة أشخاص، إنهم أصدقاء الشباب، وهم في الواقع ثلاثة انعكاسات ذاتية للكاتب. هناك الإرهابي الذي يرى أن السياسة هي تنظيم الغضب وسرعان ما يلاحظ أن غضبه كان قيمة لا تطبّق، عملة مزيفة. وهناك المبعوث الذي نهشته إفريقيا روحياً وجسدياً والذي يعود إلى وطنه أخيراً كي يموت فيه. أما الشخصية الثالثة، فكانت آمنت بإمكانية عيش حياة منزوعة عن كل فضاء وعن كل قاعدة، أي حياة حرة، لكنه سرعان ما اكتشف خطأ ذلك.
وبما أنّ كلّ دروب الانتماء غير موجودة، لم يعد أمام الوعي الذي يضعه الكاتب فوق خشبة الأحداث، وهو «أنا» وجدانية لا «أنا» روائية إلا أنه يستدير صوب الأفق الافتراضي لأصول مخترعة، أي لا العودة للجذور، الشخصية أو الاجتماعية أو حتى التاريخية، وإنما البحث عن جذور أسطورية مثلما يحدث في بعض القبائل، حيث يبدعون جدوداً أسطوريين.
بالنسبة إلى دي لوكا، أصبح هذا الأصل الأسطوري يكمن في النص العبراني للكتابة، أي عبر الرنين والإيقاع. نلاحظ مثلا في كتبه، إنبعاث بعض الرؤى الوجدانية لبعض مقاطع التوراة، حتى في الإنشداد نحو الشفاهية، «أي نحو الكتابة التي تصبح صوتاً». من هنا تصبح اللغة التوراتية للكاتب ذات قيمة «أمومية» أي «الهمّ بكتابة لغة أصلية تصيب ماهية النص التوراتي». لقد حاول دي لوكا أن يتخلّص من كل الطبقات التفسيرية، التي على مرّ العصور، رزحت فوق النص، كما حاول التخلص من كل إرجاع للرؤية الرسمية. ومع ذلك، فإن هذا البحث لم ينجح في جعله «منتمياً»، أي لم «يتهوّد»، لأنه وضع نفسه بعيداً عن كل ارتباط تاريخي وايديولوجي بـ «إسرائيل». فالكتابة التوراتية بالنسبة إليه هي كتابة «ما فوق الزمن.. لا يحمل التوراة أي راهنية، إنه بالنسبة إلي، ذلك الخارج. من هنا علينا الذهاب إليه لكي نفهمه لا أن نبحث عن جعله متطابقاً مع الموديلات الغريبة عنه. إنه كنز أدبي أو روحي، بعيداً عن كل استعمال حربي نحيله اليه».
من هذا المنطلق علينا أن نفهم روايته السردية القصيرة هذه «باسم الأم» (In nome della madre)، الذي يقترح فيها إعادة كتابة، على طريقته وبأسلوبه، لقصة ميلاد المسيح لكن من خلال توقفه بالدرجة الأولى على صورة مريم وحضورها.
أولى الانطباعات التي تخرج منها بعد قراءة هذا الكتاب أنه من أكثر كتب دي لوكا التي تنحو بالكتاب نحو «لغزية» ما، على الرغم من أنها تشبه تلك الحكايات التي تُروى في موسم أعياد الميلاد. إذ يروي ـ ومن دون أي خفر غاشٍ ـ «قصة البشارة»، أي قصة الملاك الذي ظهر على مريم، والحلّ الذي اضطلع به يوسف لحماية خطيبته والهروب من الناصرة إلى بيت لحم حيث وضعت هناك في مذود، آلام المخاض التي شعرت بها، تنفسها الذي كان يتوه في الفضاء… وإذا ما كانت هذه الأمور من الأشياء المعروفة، بحسب ما وردت في «الكتاب المقدس»، إلا أنّ الكاتب الإيطالي يحاول أن يتخيّل ويضيف ـ وفق ما يقتضيه سرده الأدبي ـ بعض الجُمل والعبارات التي تقولها مريم مثل أن نجدها تقول: «أظهر نفسك أيها الصغير، تعال إليّ، مستعدة أمك لأن تمسك بك سريعاً ما إن تُخرج رأسك الصغير».
ربما كان دي لوكا يدافع عن نفسه حين يخترع هذه الجمل. أقصد أنه لكثرة ما قرأ الأناجيل والتوراة ـ (إذ يحفظهما غيباً، مثلما هو معروف عنه) ـ يحاول أن يعير صوته إلى هذه «الفتاة الشابة». من هنا تبدو مريم وكأنها تلك «الأم الشجاعة» (فيما لو استعرنا عنواناً لبريشت)، تلك «المتمرّدة» التي تجرؤ على تحدي القوانين الإنسانية ـ إذ كانت حاملاً وغير متزوجة، ما قد يفــضي إلى رجمها ـ ومواجهة الأفكار والأحاسيس الســائدة كما مصير ابنها يسوع، الذي هو وفق الروايــة الإلهــية، يحمل روح الخالق.
كتاب «باسم الأم» حكاية غير متوقعة، مليئة «بالسحر»، ولا تشذّ كثيراً عن مستوى كتبه الأخرى، أي عن ذلك الأدب المدهش الذي وجدناه في كتب من مثل «ثلاثة جياد» أو «جبل الرب» (2). وما يعطي الكتاب تفرّده، هذه المسحة الشخصية التي يُضيفها الكاتب على «الرواية الرسمية» التي يبقى مخلصاً لها من البداية إلى النهاية، أي ليس هدفه تغيير وتبديل ما توارثناه بل محاولة الدخول أكثر إلى عمق النص، ليفتح من خلاله بعض التأويلات، كأن نجد مثلاً ذلك البيت الشعري للشاعر الروسي يوسف برودسكي الذي كتبه بعد ألفي سنة من تلك الحادثة، ويقول فيه: «لتعتدْ، أيها الصبي، على الصحراء».
بالتأكيد تأخذ الصحراء هنا، معنييها المختلفين، من حيث هي مكان، كما من حيث هي مجاز لحالة وفضاء ومناخ. هنا يكمن كل «تناقض» الكاتب، إذ تأتي كل صفحة كتبها هذا الشخص «غير المؤمن» لتبدو بمثابة «صلاة» ما.
«باسم الأم»، ربما هو محاولة لتجسيد فكرة قديمة عند الكاتب الذي يجد أن «مهمة الكاتب أيضاً أن يعطي للماضي إمكانية أخرى، ذكاء آخر»، هي أيضا محاولة «لتأنيث» قصة الالوهة، إذ جاز القول، بمعنى إيجاد صيغة مقابلة لما يُقال في المسيحية «باسم الأب»، لذلك يفترق كتابه بالتأكيد عمّا يسميه النقاد في إيطاليا «الكيتش الثيولوجي».
(]) كلام إري دي لوكا المقتبس هنا، في هذه المقدمة، مستلّ من مقابلة أجريتها معه في باريس، ونشرت في «السفير» بتاريخ 9- 4- 2002
(1) «بكم التاريخ»، ملحق للترجمة العربية لرواية «جبل الرب»، لكاتب هذه السطور.
(2) صدرتا بترجمة عربية لنزار آغري، عن «منشورات الجمل»
——-
السفير