*لطفية الدليمي
(1)
يكادُ الفنّ الروائيّ أن يكون الاشتغال المعرفيّ الوحيد – بين الإشتغالات الأدبيّة – الذي طاله الارتقاء المتواصل دونما توقف إلى جانب فنّ السيرة الذاتيّة الذي يمكن عدّه رواية ذات سماتٍ خاصّة ، وربّما كان الفن السينمائيّ وبعض مجالات الفنون الجميلة هي المجالات الوحيدة التي نافست الفنّ الروائي في التطوّر الجامح ، و لاأظن التأثيرات التجاريّة واشتراطات السوق ودوافعها غائبة عن الذهن عند التدقيق في الدوافع التي ارتقت بالفن السينمائيّ وفنّ الرسم والتصوير ، ويبقى الفنّ الروائيّ الأكثر تحقيقاً لشروط الأصالة والأكثر إيفاء بِمتطلّبات الشغف البشريّ . لكن لِمَ صار الأمر كذلك ؟ ولِمَاذا توزّع الإبداع الروائيّ على جميع الجغرافيات البشريّة ولم يقتصر على تلك الأمكنة التي عرفت بثرائها وتقدمها والتي تحتكر الحقل السينمائيّ وفضاء الفنون الجميلة بعكس الإبداع الروائيّ الذي يعدُّ إبداعاً إنسانيّاً مشاعيّاً إذا جاز لنا توصيفه . ثمّة أسباب كثيرة تدفع بالرّواية ( سواء الحديثة أم غيرها ) إلى الارتقاء الدائم في عالمنا المعاصر وبين كلّ الجغرافيات البشريّة حتّى بات الأمر يشكّل علامة مميّزة للرواية ، وسأتناول في سلسلة مقالاتي حول هذا الموضوع الأسباب غير التقليدية التي أفضت إلى الارتقاء الروائي المتواصل منذ نشأة الرواية الحديثة.
أول أسباب الارتقاء الروائي يكمن في كون الرواية (خزانة الحكايات) التي تحفظ المزايا المجتمعيّة والأنثروبولوجيّة لكلّ المكونات البشريّة ، ويمكن من خلالها أن نطلّ على العادات والتقاليد وأنماط العيش وفنون الطبخ والأزياء والملابس السائدة في كلّ عصر إلى جانب كلّ التفاصيل الحياتيّة الأخرى الخاصّة بالحب والزواج و الصداقة والرفقة والسفر ، ومن المثير هنا الإشارة إلى حقيقة أنّ معظم المتعلّمين و الخريجين الذين غادروا الدراسة الثانوية والجامعيّة منذ عقود بعيدة قد نسوا تقريباً كلّ ماسبق لهم دراسته باستثناء الأعمال الروائيّة التي مرّت عليهم أثناء دراستهم مثل : روبنسون كروزو ، بلد العميان ، حرب العوالم ، جزيرة الكنز ، الخ وغالباً مايستذكرونها بنوع من النشوة العميقة كمن طاف في عالم ساحر قلّ نظيره . علينا الإشارة هنا إلى شيوع قناعة راسخة في أنّ الأعمال الروائيّة لعصرنا ستنهض في الألفيّات القادمة بالدور ذاته الذي نهضت به الرّقم الطينيّة والسجلّات الآثاريّة التي أمدّتنا بكنوز لاتنضب من المعلومات حول الحضارات القديمة . ومن جانب آخر ، غدت الرواية ،على الصّعيد الفرديّ ، بمثابة ( الفضاء الميتافيزيقيّ ) الذي يلجأ إليه الأفراد للحصول على فسحةٍ من ( فكّ الارتباط ) مع الواقع المباشر واشتراطاته القاسية والإبحار في عوالم متخيّلة لذيذة تشبه حلم يقظةٍ مستمرا ، ويستوي في ذلك الإبحار مبدعو الأعمال الروائيّة وقارئوها .
يمكن عدّ الرّواية في هذا المجال ، وفي عصر العقلانيّة العلميّة المهيمنة ، البديل الأكثر جدارة وقدرة من الأسطورة التي ساهمت – مع فنون السّحر البدائيّة – في تعزيز القوى الداخليّة للإنسان البدائيّ و تعزيز بنيانه الذهني والنفسي وتمكينه من مواصلة العيش بطريقة مشرّفة بعيداً عن التخاذل والإنكفاء أمام المصاعب والأهوال التي كانت شائعة مذْ وجِد الإنسان على هذه الأرض ، ومن الطبيعي تماما القول أنّ الرواية قادرة على النهوض بكلّ المهام التي نهضت بها الأسطورة من قبلُ.
يتبع
_________
*المصدر: المدى