*لطفية الدليمي
نعلم جميعا أن هناك روائيّين محترفين ينجزون الكثير ويحقّقون أعلى المبيعات . غير أن أفضل الروايات في الغالب – ليست تلك التي تحقق أعلى المبيعات لمجرّد معرفتها بشروط السوق وألعابها التجاريّة . من جانب آخر نجد أنّ كثيرا من العقول الراقية التي أسهمت مساهمات ثوريّة في الحقول العلميّة أو التقنيّة أو المعرفيّة ، شاركت في المجال الروائي بكتابة أعمال روائية بارزة ، وربّما يعود الأمر إلى حالة البهجة والنشوة المفارقتين للحالات العابرة والمقترنتيْن بكتابة العمل الروائيّ الذي يمتلك أساسياته الساحرة المغرية للعقول الشغوفة التي مارست الكتابة الروائيّة و اكتشفت لذّتها الفردوسيّة التي لانظير لها . أذكر في هذا المقام ، مثلاً ، عالم الرياضيّات العبقريّ الأميركيّ ( نوربرت فاينر Norbert Wiener ) ( 1894 – 1964 ) واضع أسس علم السيطرة الآليّة Cybernetics ، الذي كتب رواية ( المُغوي The Tempter ) المنشورة عام 1959 ، و كذلك أذكر الفيلسوف البريطانيّ الأشهر برتراند راسل الذي نشر رواية له بعنوان ( شيطان في الضّواحي Satan in the Suburbs ( ، كما أذكر البروفسور ( مارفين مينسكي Marvin Minsky ) أستاذ الذكاء الإصطناعيّ والروبوتيّات في معهد ماساتشوستس MIT الأميركيّ الذائع الشهرة ، وَ ( جون كينيث غالبريث John Kenneth Galbraith ) الموسوعي وعالم الإقتصاد والأستاذ الجامعيّ البارز الذي عمل سفيراً أيضا . هؤلاء كلهم وآخرون كُثر نشروا أعمالاً روائيّة بارزة إلى جانب اشتغالاتهم المعرفيّة المشهودة . و لن أنسى بالتأكيد الكثير من الفيزيائيّين الذين نشروا أعمالاً روائيّة مميزة وأذكر منهم ( آلان لايتمان Alan Lightman ) صاحب الرواية ذائعة الصيت ( أحلام آينشتاين Einstein”s Dreams ) التي تُرجِمت إلى العربية. وهنا لايأخذنا الظنّ بأن هؤلاء العلماء الكبار قد كتبوا الرواية في إطار رواية ( الخيال العلميّ ) القريبة من اشتغالاتهم المعرفية بل كتبوا أعمالا في مختلف الأنماط الروائيّة المعروفة وتوفرت أعمالهم الروائية على أهم متطلبات الصنعة الفنيّة والإبداع الرفيع التي تتطلّبها الكتابة الروائيّة الخلّاقة .
وصف أحد الروائيّين – ذات يوم – الرواية البارعة في صنعتها بأنّها مثل آلة ( إينيغما Enigma ) التي استخدمها الحلفاء في فكّ شفرة الحرب الألمانيّة في الحرب العالميّة الثانية ، وأظنّه كان موفّقاً تماما في هذا التوصيف ، فقد باتت الرواية اليوم مصنعاً يعجّ بالخبرات التي يتعامل معها الروائيّ ليخرج في النهاية بعملٍ يهدف إلى فتح آفاق جديدة أمام الوعي البشريّ وتوصيف خارطة المعضلات التي يواجهها الجنس البشري راهنا ، بل ذهب البعض إلى أنّ الرواية الجيّدة المصنوعة بشغف يمكن عدّها فرعاً من الدراسات الخاصّة بالتنبّؤ بالمستقبل ) علم المستقبليّات Futurology ) وصار الروائيّ البارع المتمكن يعـدّ شخصاً موسوعيّ المعرفة تحفل خزانته بالكثير من العناصر المعرفيّة التي تمكنه من امتلاك بصيرة رائية ترى معالم المستقبل في الوقت الذي يحكي فيه عن الحاضر ، واستحال الروائيّ – على هذا النحو – مثل آلة ( إينيغما ) معاصرة تفكّ شفرات الحاضر الملتبسة وتعمل على تلمّس آفاق المستقبل وبخاصّة على صعيديْ الوعي البشريّ والسايكولوجيا الإنسانيّة ، و مايترتّب على تطوّرهما من تشكّلات جديدة في العلاقات بين الكائنات البشريّة ، وبين البشر والبيئة ، وحتى في العلاقات بين الكائنات الأخرى مع بعضها ومع الكائنات البشريّة في الوقت ذاته.
______
*المصدر: المدى