امل عيسى
هل نحن أحرار في التصرف على النحو الذي نريده أم مقيدون بحتمية مكتوبة من قبل قوة قاهرة؟ هل الشعور بأننا نملك زمام قراراتنا المختلفة وهم أم حقيقة؟ وإذا كانت خياراتنا ليست ملك أيدينا فلماذا نتحمل المسؤولية الأخلاقية عن أفعالنا؟
القضاء والقدر والغيبيات وارتباطها بالإيمان بما قدره الله سبحانه وتعالى للإنسان من خير وشر، ومسألة علم الله لأفعال الإنسان قبل أن يفعلها، هي من المسائل الجدلية القديمة بين الأديان والفلاسفة، فليست المسائل تلك إيمانية فحسب؛ بل هي مرتبطة بقضية حرية الإرادة والفعل للإنسان.
يحاول توماس بينك في مقدمته القصيرة الثرية الإجابة عن السؤال القديم: هل نحن مسيرون أم مخيرون؟ وفي الكتاب يطرح بينك مفهومه عن الحرية والإرادة الحرة في ثمانية فصول؛ مشكلة الإرادة الحرة، الحرية باعتبارها إرادة حرة، التفكير، الطبيعة، هل توجد مبادئ أخلاق دون حرية؟ التقرير الذاتي والإرادة، الحرية وموقعها في الطبيعة.
يقول المؤلف “هناك أشياء بالتأكيد خارج نطاق سيطرتك، فموتك وحياتك ولون عينيك وسماتك الخاصة يستحيل أن تكون تحت سيطرتك. في حين أن أفعالك الحاضرة والمستقبلية (أين ستقضي أوقاتك؟ ومن ستنتخب؟ وهل تستمر في عملك أم لا؟) هي من الأمور التي تتحكم فيها كليا لأنها من أفعالك المتعمدة، فلك أن تفعل أو تمتنع عن الفعل”.
قد يظهر تاريخ مشكلة الإرادة الحرة في اسمها، فكلمتا “حرية” و”إرادة” لا نستخدمهما كثيرا في الحياة اليومية للحديث عن تحكمنا في أفعالنا -يقول بينك- فالحرية قد تشير إلى الحرية السياسية، وهذا هو الشائع وقد تشير في معنى آخر إلى التحكم في أفعالنا.
وهناك تشابه بين التحكم في الأفعال والتحرر السياسي، فالحرية السياسية تتعلق بعلاقتنا بالدولة، وممارسة الحقوق والعمل السياسي. وكذلك بعلاقتنا بمجتمع أكثر اتساعا من البشر الذين نشكل جزءا منهم. وبوجه خاص، فإن التحرر السياسي يتعلق أساسا بالمدى الذي تصل إليه الدولة في تحاشي تقييد أنشطة مواطنيها من خلال القوانين والإجبار القانوني.
إن المسؤولية الإنسانية تستلزم توفر حرية الاختيار، فلا يكون العقاب مبررا إلا إذا كان الفعل صادرا عن إرادة حرة. “الصلة الوثيقة بين الحرية والفعل مهمة للغاية، ومحاولة الفصل بين الفعل وحرية الإرادة قد تقود إلى عدم التصديق بوجودهما، يؤكد بينك، وبدون الإرادة لن نكون قادرين على إدراك أي معنى لحرية الفعل على الإطلاق”.
فبعد أن فرق بين الحرية والحتمية في الفصل الأول يفرق الكتاب في الفصل الثاني بين الحرية والتفكير، فلا حرية للحيوانات، قد تكون الغائية هي إحدى السمات المشتركة بين أفعال البشر والحيوان، ولكن أفعال الحيوان تقودها الغريزة البدائية التي توجه طريقة تصرفه للحصول على ما يرغب فيه، أما الإنسان فيتحلى بتحكم أصيل في طريقة تصرفه، وهو ما يتطلب أن يتحلى بالقدرة على التصرف بعقلانية، وعلى أساس من التفكير المدروس بشأن الطريقة التي ينبغي أن يتصرف بها.
ثم يتطرق المؤلف إلى مسألة الغيبيات والإرادة الحرة عند فلاسفة القرون الوسطى، فيقول “مشكلة الإرادة الحرة في القرون الوسطى كانت لاهوتية وليست مادية، ولكنها قادت إلى قدر من التشكك الصريح في الحرية أقل كثيرا مما نراه في الفلسفة الحديثة”، ويرى بينك أن مفكري القرون الوسطى لم ينظروا إلى قدرة الله المطلقة وتدبيره لحياة البشر على أنها تهديد لحرية الإنسان، فرغم علم الله بأنك سوف تتخذ قرارا بفعل معين، فإن هذا العلم لا يقيد أو يهدد حريتك، فالله خلقك كائنا حرا بطبيعتك.
ثم ينتقل الكتاب في الفصل الثالث إلى مناقشة قضية التفكير والعلاقة بين الحرية والتوافقية والحتمية، فنظرية الحتمية السببية تقرر أن الأحداث والأفعال المستقبلية حددت مسبقا منذ لحظة مولدنا، وهي نتائج حتمية لأحداث الماضي والحاضر معا من بعد خضوعها لقوانين الطبيعة. وتلك الحتمية تنافي الحرية التي تخلق المسؤولية الإنسانية عن الأفعال والتصرفات.
يقول بينك “يفترض أغلب الناس بالفطرة أن الحرية لا تتسق والحتمية السببية”، لذلك ناقش الفلاسفة مفهوم التوافقية، وهي التي تضمن أن تتعايش الحرية مع الحتمية. ولكن لماذا اعتقد الكثير من الفلاسفة في التوافقية؟ يرى المؤلف أن الدافع الواضح لذلك هو: الحفاظ على حرية الإنسان من التهديد بأن تصبح الحتمية السببية حقيقة (تنعدم معها الإرادة الحرة).
اختص الفصل الرابع بما أسماه المؤلف بـ”ثورة هوبز” في نظرية الفعل البشري، إذ ابتكر هوبز نظرية جديدة قللت من منزلة الإرادة، فلم تعد قدرة خاصة تميز البشر العاقلين عن الحيوانات، بل أصبحت قدرة على الشهوات أو الحاجات، يمكن أن يتشارك فيها البشر والحيوانات على حد سواء، فالفعل لم يعد يحدث بوصفه ممارسة للإرادة بل أصبح تأثيرا لاحقا لممارسة الإرادة.
وتأثر الفلاسفة -يقول المؤلف- جميعهم تقريبا بنظرية هوبز، وما تدور حوله من أن البشر لا يختلفون عن الحيوانات الأخرى إلا في كونهم أكثر تعقيدا، فالاختلافات في الذكاء والقدرة بين البشر والحيوانات هي اختلافات في الدرجة وليس في النوع. ويرى “بينك” أن “هوبز” كان محقا في عدم اختيارية القرارات، فلا يمكننا أن نتخذ قرارا معينا بالتصرف كيفما نريد لمجرد أننا قررنا أن نتخذه.
يتساءل المؤلف: هل توجد مبادئ أخلاق بدون حرية؟ يذهب بينك، في الفصل الخامس، إلى أن المنطق السليم يقتضي أن نكون مسؤولين أخلاقيا عما نقوم به أو نمتنع عنه، فاتخاذ قرار ذاتي بالفعل يستلزم أن نكون أحرارا بالتحكم بالفعل. ولكن هذا يختلف مع ما اعتقده بعض الفلاسفة قديما مثل كالفن أو حديثا مثل هاري فرانكفورت، حيث قرروا أننا مسؤولون عن الفعل نتيجة العمد، ولكن ليس لنا حرية التغيير أو التصرف بطريقة مغايرة.
وتتضح أسباب رغبة هؤلاء الفلاسفة في تأسيس المسؤولية الأخلاقية على الاختيارية بدلا من الحرية، فالاختيارية سهلة الاستيعاب والفهم، في حين أن الحرية أكثر إثارة للجدل. لكن المنطق السليم حسب رؤية بينك أن يتحمل الناس المسؤولية المباشرة عما يقررونه ويتعمدونه وليس عما يرغبونه فقط، فالعبرة بالأفعال وليس بالنيات.
إن الحرية لا بد أن تتخذ شكل القدرة على اتخاذ القرار، ولكن ما دور الرغبات في تشكيل القرارات؟ فطبقا لمذهب التوافقية -يقول بينك- عندما نتصرف بحرية فإننا نحدد لأنفسنا كيف نتصرف ولكن من خلال وسيط، وهو الرغبات وهي التي تقع مع الدوافع خارج نطاق تحكمنا.
لكن الليبرتارية تختلف عن ذلك، فلا بد تبعا لها أن نكون نحن من نقرر ونتحكم بأنفسنا بوصفنا فاعلين أحرارا.
ويرى بينك أن الحرية “هي أمر نمارسه من خلال الفعل المتعمد أو ترك الفعل، والفعل هو شيء ينفذ لغرض ما أو من أجل الوصول لغرض ما”. وفي النهاية يبدو الفعل والغائية شيئا واحدا.
ثم يخصص بينك الفصلين السابع والثامن للدفاع عن الليبرتارية (مذهب مؤيدي مبادئ الحرية)، ويرى المؤلف أن المؤمنين بالليبرتارية ينالون انتقادات جمة بسبب عدم واقعيتهم فيما يتعلق بالطبيعة البشرية، فهم عادة متهمون بإيمانهم “بوهم مفرط بفكرة الفاعل الحر بوصفه صانعا ذاتيا بالكامل، وبوصفه مسؤولا عن جميع الأمور التي يجب أن تعتمد عليها تلك الأفعال”.
ويطرح توماس بينك تعريفه للحرية بأنها قوة تحدد وقوع الحدث، هل سيقع أم لا، ولا يمكن ممارستها إلا من خلال الفعل. وهي -على عكس السببية- قوة لا يمكن أن يتمتع بها سوى البشر، وتختلف الحرية عن أي شيء آخر موجود خارج العقل في الطبيعة بصورتها الكبرى، فهي ظاهرة على قدر من التميز والتعقيد مثل أي من السمات العقلية.
الحرية جديرة بإيماننا وبالاعتقاد بأننا غير قادرين على التخلي عنها -يقول بينك- وقد يمكننا إلى حد ما أن نتخلى عن قناعاتنا اليومية بأيلولة قرارات الفعل أو عدم الفعل إلينا، ولكن يصعب التخلي عن الإيمان بقدرتنا على التفكير أو الفهم.
——–
الجزيرة نت