رلى راشد
حين يكتب ماريو فارغاس_يوسا عن إرنست همنغواي في صحيفة “ايل باييس” الإسبانية ثمة احتمال كبير بأن تكون النتيجة نصّا يستحق التوقّف عنده. ليس لأن الرجلين من محظيي نوبل الآداب فحسب، بل لأن التماس بينهما قديم العهد، وشهد مرحلتي افتتان فصَلَت بينهما حقبة من التشكيك من جهة الأديب البيروفياني إزاء مرتبة الصوت الأميركي المحوري في القرن العشرين، لم تلبث أن خَبَت، ليعود الودّ إلى سابق عهده.
يمكن اقتفاء أثر اللقاء الثنائي المسجّل بينهما في بحث فارغاس يوسا “حقيقة الأكاذيب” (2007) حيث اختار خمسا وثلاثين رواية صدَرَت في القرن العشرين وعدّها من بين الأكثر تأثيرا في سيرته. ها هنا نمرّ بـ “موت في البندقية” لتوماس مان و”قلب العتمة” لجوزيف كونراد وعناوين سواها عمد إلى التعليق عليها في اندفاع وتبصّر لافتين.
فارغاس يوسا الذي وصفه مُهرّج الحزن الياباني كنزابورو أوي – وهو للمفارقة من أصحاب “نوبل” الآداب أيضا – بـ “الضوء الأدبي”، يُبَيّن في بحثه ريبة من موت الكِتاب الورقي المُعلن ويستشرف ضربة ربما تكون فتّاكة ستصيبُه. يزيد ان اسمه لن يختفي بلا ريب، بيد أنه “سيستخدم على الراجح من أجل الدلالة على نسق من النصوص البعيدة جدا عما نسمّيه الأدب، راهنا”.
في البحث عينه استبقى فارغاس يوسا دور الأدب الأهم الذي حدّده بالتنقيب عميقا في عالم الأفراد الداخلي، وأوصله التحليل إلى رواية همنغواي التأسيسية “العجوز والبحر” ليخصص لها فصلاً. توقّف عند “الحكاية البسيطة” أو “المقاربة البسيطة” المتكوّرة على صياد عجوز استطاع في أعقاب فترة من الشحّ أن يظفر بصيد ثمين لا يلبث أن يُجبر على المحاربة بغية الإحتفاظ به.
أما في مقاله الأخير المنشور في “إيل باييس” وبعنوان “همنغواي والحروب” فيسترجع فارغاس يوسا الأميركي همنغواي بذريعة معرض إستعادي تستضيفه “مورغان لايبريري” في نيويورك وحيث يصير المحور، في سياق حربين عالميتين إجتازهما.
يشيد فارغاس يوسا بعنوان المعرض – التحية “ارنست همنغواي: بين حربَين”، علما أنه يشمل بعض مسودات عناوينه ورسائل بخط يده فضلا عن صور غير معروفة إلتقطها الكاتب بنفسه. ويقرّ بأنه قرأ همنغواي كثيرا في شبابه ذلك أنه كان من بين الكتّاب الأوائل الذين استطاع قراءتهم بالإنكليزية غير أنه لم يلبث أن فقد الاهتمام به تدريجا لاقتناعه أنه ليس بالجودة التي ظنّها، ليزيد “غير أن ذلك تبدّل حين أعدتُ قراءة “العجوز والبحر” بهدف الكتابة عنها، حينئذ أدركت أنها تحفة في جميع المعايير وأنها إحدى الأمثولات الأدبية التي تعكس على أفضل نحو الوضع الإنساني”. والحال أنه سبق للبيروفياني أن تأمّل في بحثه “حقيقة الأكاذيب” في العجوز الذي يعود إلى الميناء حاملاً بقايا سمكة لم تعد تنفع لشيء وإنما يصرّ على التمسّك بها ووجد في ذلك تأكيدا ان “ثمة أملا دوما وأنه، وحتى في أسوأ الأزمات والمآسي، يمكن تصرّف المرء أن يُحوّل الفشل إلى انتصار وأن يمنح لحياته معنى”.
يدلّ فارغاس يوسا في مقاله على رجل الحركة همنغواي الذي بيّن عن دقة شديدة في لحظة الكتابة، على نسق الفرنسي فلوبير. يُذكّر بأن همنغواي أعاد كتابة مطلع “العجوز والبحر”، سبع عشرة مرة، ولا يُخفي تأثره برؤية معلقةً في “مورغان لايبريري”، صورة الصيّاد الكوبي الذي استحال بطل حكاية “العجوز والبحر” التي دخَلَت السجلاّت الأدبية. راسل همنغواي أصدقاءه في شأن الرجل أيضا مُتحدّثا عن شخص أعاد ابتكار أوديسية الصيّاد العجوز الذي يصارع قرشا حاول أن يسلبه سمكة كبيرة كان نجح في اصطيادها.
يعترف فارغاس يوسا بأنه كان ليفضّل أن يكون همنغواي الإنسان مرادف المغامر المثالي. تمنّى أن تكون التفاصيل المرويّة في شأنه شبيهة بما عاشه فعلا، غير أن شخصية همنغواي حملَت في الواقع مفارقات عدة. يكتب فارغاس يوسا في المقال أن همنغواي كان رجلا ” تحوّل في أعقاب عظمة لمّاعة وعابرة، إلى صورة هزلية عن نفسه وانتحر لأنه لم يجد القوة لكي يواصل اختراع نفسه أو اختراع الحكايات”.
يخرج ماريو فارغاس يوسا من معرض همنغواي الإستعادي وفي حلقه مرارة، مرارة من يرتطم للمرة الألف بالحقيقة التي تكذّب أساطير تزنّر الناس كهالة.
——-
النهار