قراءة أميركية لأليكسييفتش.. تعلّم الحرية


نيرمين موسى


  أثار فوز الكسييفتش بجائزة نوبل للآداب الكثير من التعليقات، التي تتراوح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بمعنى أن كثيرين لا يجدون أنها كاتبة ممتازة، بينما يكيل لها البعض الآخر، المديح المفرط معتبرين أنها واحدة من أكبر كاتبات هذا العصر. في أي حال، وبعد أن نشرنا وجهات النظر تلك (وكانت كلها «ضد» أليكسييفتش»)، نقدم اليوم نظرة مخالفة، «بعين أميركية» ترى أنها عرفت كيف تعيد إسماع صوت البشر الذين نسيتهم الحروب. المقالة هذه (مقتطفات كبيرة منها)، نُشرت في «النيويورك ريفيو أوف بوكس».

قرية بيلاروسية صغيرة اختبأت في غابات دائمة الخضرة. صفوف من المنازل الخشبية المنخفضة منقطة بفواصل بين المقاعد الطرقية. هناك قبعت مجموعة من نساء القرية، أرامل حرب. يحدثن أنفسهن حتى النوم. لماذا يجلسن على هذه المقاعد بعد يوم مليء بالعمل؟ هل لأنهن خائفات من الذهاب لوحدهن إلى منارلهن المظلمة؟

ألكسييفتش، التي حازت نوبل للآداب، ترعرعت في مثل هذه القرية في الريف البيلاروسي. فتاة تضع قلادة على صدرها تحمل صورة لينين شاباً.. كانت تستمع للنساء الجالسات على المقاعد يتحدثن عن الحرب العالمية الثانية، ستالين، الخوف والقيم البشرية.
قصص لم تُروَ مثلما كانت عليه في كتب التاريخ، بل تمّ تركيبها من تفاصيل الحياة الصغيرة المنسيّة. لم تبحث كتب التاريخ في الفصول اﻷسوأ للحرب: «كان الجو خريفياً عندما بدأت الطيور المهاجرة رحلتها جنوباً، وربيعياً عند عودتها، غير مدركة للنزاعات البشرية المنتشرة من تحتها. كانوا عالقين بنار المدفعية التي أطلقت عليهم من قبل اﻵلاف. غطت جثثهم بساتين الكرز والتفاح». لم تعر كتب التاريخ انتباهاً للقتل الجماعي الذي شهدته اﻷحصنة، أما نساء القرية فقد أعرن انتباههن للقرية التي أحرقت النار جميع قاطنيها، أما الناجون فقد اختبأوا في المستنقعات، وبعد عودتهم لم يجدوا شيئاً سوى الرماد وبعض اﻷحصنة المنسيّة في المزارع. سألت النساء كيف استطاع البشر حرق بعضهم بعضاً حتى الموت؟ تماماً كما حصل هناك بالقرب من اﻷحصنة التي شاهدت الموت بهدوء.
انتقلت أليكسييفتش إلى بيلاروسيا وهي طفلة صغيرة، وبعد حصولها على شهادة الصحافة درّست التاريخ واللغة الألمانية بينما كانت تنشر مؤلفاتها الخيالية والواقعية معا. في الستينيات، وهي تلميذة بعد، توطدت اﻷسطورة السوفياتية العظيمة عن الحرب العالمية الثانية، بشكل كبير. حكايا أسطورية عن المعاناة والتضحية والنصر الوطني الذي كان يسعى لشرعنة الرعب الذي صمد بوجهه الشعب السوفياتي، وهو أكثر بقليل ممّا عاناه الشعب البيلاروسي خلال الحرب. الهجوم اﻷلماني اﻷول على الاتحاد السوفياتي كان في أيار 1941 وقد وقع على اﻷجزاء الشرقية (بيلاروسيا). تمّ تدمير209 من أصل 270 مدينة بيلاروسية بالكامل خلال الحرب. تم إحراق أكثر من 500 قرية باﻹضافة إلى الكثير من سكانها. كانت من أقسى المآسي التي اختبرتها بيلاروسيا كسلسلة من سوء الحظ الذي لا يلين في ذلك القرن. آلاف من البيلاروسيين قُتلوا على يد ستالين في الثلاثينيات. بعد خمسة عقود ستتحمل بيلاروسيا المقدار الأكبر من الغبار الذري الناتج عن انصهار الطاقة النووية التي زُرعت في أوكرانيا المجاورة. الرد الرسمي على تراث المعاناة هذا، كان التاريخ السوفياتي الذي قلل من اﻵلام باستخدام الكليشيه المفضلة: «بطولة، شجاعة، تضحية»، واستبدال الفرد بنموذج الجندي السوفياتي البطل. أثبت أجدادنا الصالحون قيمهم برمي أنفسهم على خطوط التماس اﻷولى بلباسهم العسكري الكامل ممعني التفكير بأرضنا الأم وأحبائهم فقط.
بيكو
أول كاتب بيلاروسي تحدى هذه الرؤية من الماضي القريب هو «بيكو». روائي ومحارب قديم في الحرب العالمية الثانية، ويقال إن اسمه كان على قائمة جوائز نوبل في العام 2001. في العام 1965 وهو عام تخرج أليكسييفتش من المدرسة، نشر بيكو روايته القصيرة عن الحرب «الأموات لا يشعرون باﻷلم»، التي تمّ حظرها فوراً. السبب؟ «الافتراء على الجندي السوفياتي البطل». وقفت شخصياته بعناد خارج اﻷسطورة السوفياتية الوطنية. «كانوا جبناء مثلما هم شجعان»، «خانوا وخينوا». غير مقتنعين بأن النصر على الفاشية والرأسمالية يبرر لهم موتهم. بكلمات أخرى «إنهم بشر»، وبالنسبة إليهم، «لا تناسبهم سراويل الجندي السوفياتي المثالي». وبما أنها معجبة كثيراً ببيكو، أرادت أليكسييفتش، أن تكتب عن الحرب، إذ ما زالت أصوات النساء الجالسات على المقاعد تطنّ بأذنيها. أرادت أن تأسر أصوات الجنود اﻹناث وممرضات الجيش والنساء اللواتي ذهبن من أمام المواقد إلى ساحة المعركة. وهذا ما جعل منها كاتبة من نوع مختلف وجديد. لم ترغب في كتابة رواية. 
لهذا سافرت عبر الاتحاد السوفياتي حاملة معها، المسجل الصوتي، لتستمع إلى الناس وتجمع المواد التي من الممكن أن تشكل كتابها اﻷول الذي يمكن عنونته باﻹنكليزية «للحرب وجه لا يليق بالمرأة»، ومن الممكن أن تكون الترجمة اﻷسوأ أفضل ومعبرة على نحو أدق «الحرب لا تشبه المرأة». بدلاً من إطلاق مقابلاتها في قص سردي وبصوتها الشخصي. قامت أليكسييفتش بتقديمها كخطاب من كتل متصلة. يمكننا القول إن كتاب «الحرب لا تشبه المرأة»، مُعرّف بأصوات أشخاص آخرين. تكمن موهبة ألكسييفيتش بالتحايل على متحدثيها وجعلهم يتحدثون عن أنفسهم بعبارات حميمية. غربلت الكثير من المواد طوال ساعات وساعات باحثة عن اللحظات التي تنحرف فيها مواضيعها عن الشكل أو اﻷسلوب الرسمي.
ها هي إيفانوفا ميدفيكينا، التي كانت رامية مدفعية في الحرب، تحاول وصف المعركة: كيف يمكنني أن أجد الكلمات؟ أستطيع إخباركم عن إطلاق الرصاص، أما عن البكاء فلا أستطيع سأبقى صامتة. أعرف شيئاً واحداً أن الحرب تجعل اﻹنسان خائفاً وصامتاً فكيف يمكن فهمه. أنت كاتبة لذا ألِّفي لنا شيئاً ما، شيئاً جميلاً خالياً من اﻷوساخ والقمل، خالياً من القيء ورائحة الدماء والفودكا. شيئاً ما أقل خوفاً من الحياة».
أداموفيتش
باﻹضافة إلى بيكو، تدين أليكسييفتش بجزء من أسلوبها إلى الكاتب البيلاروسي أليس أداموفيتش الذي نشر مع يانكا بريل وفلاديمير كوليسنيك رواية «أنا من قرية النار» (1975 ) وقد أطلق عليها أداموفيتش اسم «الرواية المشتركة» وطالب أن تكون «رواية بيلاروسية» إذ إنها تحتوي فقط على أصوات أشخاص واقعيين. هو كتاب ذاكرة عن أولئك الناس وعائلاتهم الذين علقوا داخل النيران في قراهم من قبل النازيين ولكنهم نجوا بأعجوبة. الأسلوب المتعدد اﻷصوات في رواية «أنا من قرية النار» أثّر بقوة على رواية «الحرب لا تشبه المرأة»، إذ عرضتا سلسلة من المقابلات، وتَلخص دور الكاتب في أن يكون مستمعاً ومدوناً في المقام اﻷول.
في خطاب ألقته العام 2013 قالت أليكسييفتش إنها عندما تُسأل عمّا إذا كان الناس قد تحدثوا معها حقاً بجمالية مثلما فعلوا في روايتها، كانت تجيب: «الناس يتحدثون دائماً بجمالية إن كانوا واقعين في الحب أو قريبين جداً من الموت. نحن الاشتراكيين لا نشبه الآخرين. لدينا أفكارنا غير المألوفة عن اﻷبطال والشهداء. لدينا علاقة غريبة مع الموت».
مع نشرها كتاب «الحرب لا تشبه المرأة»، استعيدت تلك الضجة التي عرفتها كتب بيكو. اُتهِمَت أليكسييفتش بأنها لطخت صورة المرأة السوفياتية. لكن بعد بضع سنوات، ومع وصول المصلحين السياسيين واﻻقتصاديين، بيع من الكتاب حوالي مليوني نسخة. وفي العقود الثلاثة التالية ألحقت روايتها بأربعة أعمال أكثر تجريداً للأسطورة السوفياتية. تشكل هذه الكتب مشروعاً طموحاً ومذهلاً لمحاولة تأريخ الاجتياح الكامل للتاريخ السوفياتي من الثورة إلى الغولاغ والحرب العالمية الثانية وصولا إلى أفغانستان وتشيرنوبيل وانهيار الشيوعية، عبر أصوات أناس، نادراً ما سألهم المؤرخون. في خطابها هذا، قالت: «الشارع بالنسبة إليّ جوقة وسمفونية. ما هذا الخزي فقد قيل الكثير عن الهمس والصراخ في الظلام».
لقد جعل التاريخ السوفياتي نفسه رواية دائمة من الأفكار. لهذا اهتمت أعمال أليكسييفتش بالتفاصيل العابرة ومحاولة نسخ المفاجأة في حياة الآخرين السرية: «نُصحت فتاة جائعة بأن تأكل روث حصان نصف جامد وقالت إنه ممكن تماماً، ورائحته كرائحة العشب الجاف، رائحة الحرب العالمية الثانية». تقيس في كتابها كمية اﻹنسانية داخل اﻹنسان البشري».. لقد ثمّن الاشتراكيون السوفيات اﻷفكار عبر الحياة البشرية لهذا انتهوا بنهر من الدماء وجبال من الجثث الميتة. لا يمكن بتاتاً نسيان هذا النوع من الماضي. من الصعب أن نبدل اﻷفكار باﻷشخاص من أن نبدل اﻷشخاص باﻷفكار. مادة أليكسييفتش الرئيسية هي اﻹنسان السوفياتي الذي تمت لعنته بالنظر إلى الخلف دائماً ليرى ماضيه كمستقبله وليكون الجلاد والضحية معاً. علينا أن نستمع إلى هذه الأصوات في آخر كتبها «الزمن المستعمل»، الذي كشفت فيه عواقب انهيار الاتحاد السوفياتي على مواطنيه. من الواضح أن لا أحد يستطيع أن يخطو مباشرة من العبودية إلى الحرية. عليهم أن يتعلموا كيف يمكنهم أن يكونوا أحراراً تماماً كالطفل الذي يتعلم كيف ينام.
——
السفير

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *