قصائد حبّ على شكل انتحار جماعيّ»


قزحيا ساسين


قد يكون الحبّ بحدّ ذاته شكلاً من أشكال الانتحار، وقد يكون وهو يفتح شراعه قِبلة شاطئ الحياة مبحراً في الوقت نفسه نحو موت يهديه إلى الحياة لتتبنّاه وتربّيه فيصير بعضاً منها وتصير بعضاً منه. وقد تكون نسبة الحياة مرتفعة جدّاً في الموت والعكس صحيح. في جديده «قصائد حبّ على شكل انتحار جماعيّ» يحمل الشاعر مكرم كامل كيس اللغة بطرف عصاه، ويمضي متأبّطاً قلبه تحت شمس حارقة يؤلمها ما فيها من ذهب الحنين.

في قصيدة «ريح» يستهلّ كامل حكايته بضمير المخاطبة، الذي يغتال ضمير المتكلّم: «بعضُكِ يغتالني / وبعضُكِ يهجرني / قلبكِ لي / وبقيّتُكِ للرياح». وتبدو أنثى الشاعر طاعنة في الانتماء إلى الأرض، وقد تكون الرياح والأصداف والملح والقمح والطحين هي التي تجتاز كونَها عناصِرَ لتتشكّل امرأة. إنّه الالتباس بين أن تكون الأرض امرأة أو الامرأة أرضاً! «الغربيّ زيّن أطراف ردائك أصدافاً وملحاً / الشمالي كلّل عينيكِ حزناً / وريح الشرق حملت عبق القمح والطين… / من الجنوب / آه من ريح الجنوب / تحمل ما تحمل من ندى / قطفته من الصبح دمعاً / يبلّل شفتيكِ / أنت المشرَّعة على كلّ الرياح». ومن هذا الالتباس يخلِّص كامل قارئه حين يلجأ إلى العنوان – البوصلة، كما في «بيروت (2)». فبيروتُه أخرجتْه شاعراً من رحِم علامة التعجّب، وألبسَتْه الفكرة تاج فيلسوف، وكرَّستْه رجلاً بكأس وعطر أنثويّ، ومن محبرتها الحمراء طَلَع عليه مارد الثورة: «أهدت إليّ جملة / وبضع علامات تعجّب / فصرتُ شاعراً / أهدت إليّ فكرة فصرتُ فيلسوفاً / أهدت إليّ كأساً ورائحة امرأة / فصرتُ رجلاً / أهدت إليّ رصاصة / وكتاباً أحمر / فصرتُ ثائراً». إنّ بيروت كامل مدينة تصنع الدهشة في زمن يضنّ بالجمال، وهي مدينة مكتفية بذاتها لتعيد ولادة ناسها كلّ يوم، هؤلاء الناس الذين لا ينشدون حلماً خارج أسوارها الخضراء.
ولا يطول البوح ليعلن كامل أنّ حبّه ممزوج بالموت، وأنّ اللون الأحمر عنده يتّسع للمعاني الكثيرة، ففيه قفير من صناعة نحل الجسد، وفيه دعوة للخروج من الجلد، وفيه إلحاح للشدّ على يد الموت وصولاً إلى نشوة الحياة المفترضة، كلّ ذلك في فيءٍ باردٍ يرتدي ظلّ حلم معلّق على جدار: «إعتصري عروقي لنثمل/ في ذلك الأحمر/ أخرجي من جلدك/ أطلقي يديك للرياح/ … تعالي لنموت معاً في ذلك الأحمر/ ما أصعب أن يمضي العمر/ والحلم معلّق على الحائط». ويواصل كامل حبّه البيروتيّ، غير قادر على النجاة من أشياء بيروت اليوميّة، العاديّة، التافهة، الضروريّة…: «بقايا مطر/ حبّات أرزّ بيضاء/ ورقة يانصيب خسرتْ/ بقايا سندويش رماه الشبع/ أو ربّما الغرق/ ودائماً، رأس حذائي وحجارة الرصيف/ وذكرى لامرأة ما/ رائحتها بين أصابعي».
ويدخل كامل دائرة التشظّي، فلا يعرف ما اصطادته الطريق منه في أزمنة البدايات: «سقط منّي شيء/ على قارعة الطريق/ كانت بداية»، ولا يبقى له سوى أن يتماسك ويحمل بعضه الباقي بعضه المتعب، إلاّ أنّ الاندثار يستمرّ وينجح التشظّي في اغتيال المشهد وتشريد عناصره على أرصفة التلاشي: «بعضي يتشبّث ببعضي/ ويزيد اندثاري/ يتلاشى شكل الصورة…» وأمام هذا التلاشي المفجع يعود كامل إلى المرأة ليجعلها مدينة في مدينة، حيث السواد أعظم، سواد الثوب والعين: «… نساء بأردية سوداء/ رجال بعيون سوداء/ مدينة أنتِ داخل المدينة/ هكذا أنتِ/ هكذا هي».
وتحت ضغط المجاز على الروح يفلت الشاعر من شبكة الاستعارة وفخّ التشبيه، ويطلق النار على السرياليّة ويختار المباشرة والانحياز إلى لغة تقول نفسها بلا ضباب وتحترف الشتيمة: «سأترك الصور البلاغيّة/ لا استعارات ولا تشابيه/ لن أكون سريالياً اليوم/ … بكلّ واقعيّة أخاطبكم/ تبّاً لكم». وإذا كان لا بدّ من الشتيمة، فلأنّ الفراغ يملأ كلّ شيء، والمدينة تنازلت عن وجودها وتجوّفت، فغادر المكان، وتوارت الجدران في سراديب النفس القاتمة: «لا غرف تسترنا/ لا قصور ترفعهم/ أو أكواخ تؤوينا»، وماذا بقي؟! بقي البشر وحدهم بلا ذواتهم، وحدهم، لا شيء معهم إلاّ العراء، ينتظرون رجوع كلّ شيء، لعلّ ذواتهم تعود إليهم: «بشر لا شيء غير بشر/ عراة أمام هذه السماء/ فوق هذه الأرض/ بشر لا شيء غير بشر/ وحدنا».
قصائد حب وخوف
في «قصائد حب، على شكل انتحار جماعي»، يلوذ كامل بضمير الغائب لجمع المذكّر «هم». ويطلق لغته عاطفيّة دافئة، باتجاه الذين: «تغلي دماؤهم حُبّاً»… هؤلاء الذين يردّون الزمن إلى الماضي ليقيم في وجه جَدَّة، أو ينفخون في ناي الوقت، إذ إنّهم مُزيلو الغبار عن وجه السماء: «… رسوم الزمن في وجه جدّتي/ أصوات كانت تعزف ناي…/ هم/ مطر يغسل السماء/ يعيد الهواء إلى الصدور فرحاً…»، غير أنّ وميض الفرح سرعان ما يذهب به سواد طالع من رحم الموت ليعلن كامل أنّ الأرض محرومة أبداً نعمة الشبابيك، ولم يعطّر هواء رئتيها، ولا شيء غير القبر يصلح لأن يكون شبّاكاً إلاّ أنّه لم يذق طعم الضوء يوماً: «القبور نوافذ الأرض المغلقة أبداً». وموت كامل يرتدي أشكالاً مختلفة، وهو يعيد نفسه بلا رتابة، ويعيد ترتيب لغة الحزن والوحدة بهدوء الصقيع في صدر الثلج. فها هو الشاعر يرى صوته زهرة كرز بلا عُمر، ونسمة تتشظى بدويّ الانفجار على لحم الصحراء الطاعن في الرمل: «رأيت موتي ذات وقت/ كان كزهرة كرز/ تسقط/ كانفجار النسمة على رمل الصحارى»، وهذا الموت على شبه قريب من الشاعر، على شبه ضمنيّ وخفيّ، وعلى إقامة دائمة في أعماق الذات، إنّه الموت الطويل العمر، الموت الذي لا يموت: «يشبهني وليس له شكلي/ مُعَلَّقاً بيني وبيني». ولا يتعب كامل من الوقوف تحت شمس محبرته السوداء، منتظراً من يقتله مجاناً ليتصدّق عليه ببقايا فكرة، أو بقفص صدري لم يستطع احتضان طائر الحياة: «أمِن أحد يقتلني؟/ أعطيه ما بقي من فكرة/ كانت في رأسي/ … أهدي إليه ضلوعي/ قفصاً لأحلامه…». ويعرف كامل تمام المعرفة أنّ مشكلته الوجودية كإنسان ليست في العثور على جواب إنّما هي في استحالة صياغة السؤال، ذلك السؤال الذي يحتضن جوابه ويسوّره بعلامات الاستفهام: «إنّه السؤال ما نبحث عنه / وليس الإجابات»… وتأتي قصيدة «خوف» لنكتشف أنّ كامل لا يرغب في التخلص من موت محتّم، ولا يرمي إلى التخلّص من كثافته. إنّما يحاول تأليف ظلّه بالشعر كي لا يترك الدنيا عارياً من الظلّ، الظلّ الذي هو الآخَر الوحيد، القادر على كسر سمّ الوحدة والغربة: «أخاف / … أن أموت وحيداً / من دون ظلّي / لهذا أكتب شعراً».
——
الجريدة

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *