جمال الغيطاني لن يأتي الى بيروت


رلى راشد


كان يفترض بالكاتب جمال الغيطاني أن يحلّ ضيفا على “معرض الكتاب الفرنكوفوني” في بيروت صوب نهاية هذا الشهر، من ضمن ثلة من الأسماء التأليفية المدعوة إلى اللقاء السنوي والتي كتَبت بلغة موليير أو نُقلت أعمالها إليها، بيد أنه كان للموت المستعجل، الكلمة الحاسمة.

لا بدّ أن المنظّمين أملوا أن يجري وفي أي لحظة تكذيب ما تردّد عن الصحة المتدهورة للصوت المسموع والمحتفى به، وراهنوا على قدرة الغيطاني على تجاوز المنطق الطبي وعلى أن ينفض عن بدنه مكوثاً طال في سرير المستشفى. غير أن القلب توقّف رغم أنف الآمال المعقودة، وكان أن طوى غيابه فصلا في تجربة الرواية العربية والمصرية تحديدا.
ها إن صوتا هام بين عالمين ينسحب من المشهد الكتابي، ها إن الغيطاني الذي تأرجح بين الصحافة مهنة المتاعب مراسلا حربيا وناقدا أدبيا من جهة وبين الكتابة الأدبية في هيئة القصة القصيرة والرواية والسيرة الذاتية وأدب الرحلات من جهة ثانية، يكفّ عن تنشّق شذا عالم أحاطه. وربما يلائم هذا المقترب رجلا خانه وعيه أخيرا فاستسلم لغيبوبة في حين قدّم سرده نسقا من التمرّن على أخذ النفَس بين السطر والتالي. 
ربما يكفي أن نمرّ بمطلع روايته الإستهلالية “الزيني بركات” على سبيل المثال، والتي ظلّت في معايير كثيرة تاج أعماله، لنستعيد هذا الطراز الخاص من النثر المقطوف والمكثّف وحيث الإيقاع نبض الحياة النثرية وذلك حتى آخر قطرة حرف. 
نقرأ “تضطرب أحوال الديار المصريّة هذه الأيام، وجه القاهرة غريب عني، ليس ما عرفته في رحلاتي السابقة، أحاديث الناس تغيّرت، أعرف لغة البلاد ولهجاتها، أرى وجه المدينة مريضا يوشك على البكاء، امرأة مذعورة تخشى اغتصابها آخر الليل، حتى السماء نحيلة زرقاء، صفاؤها به كدر، مغطاة بضباب قادم من بلاد بعيدة”.
في “الزيني بركات” لاذ الغيطاني بالعهد المملوكي مباشرةً لينقّب في المناخ السائد في أعقاب هزيمة 67، مواربةً، وجعل نصه يتكوّر على التاريخ ليقشر الخابئ تحت غطاء ممارسة السلطة. كتَب عن بيوت تنتظُر “أمراً قد يأتي غدا أو بعد غد”، بينما البيوت تتشكّل من الناس في المقام الأول والأخير. ناس مصر الذين تكسّرت أحلامهم ودفعت بهم الأهواء السياسية الى أن يحملوا أوزار القهر والطغيان في صيغ قد تختلف في الشكل بيد أنها تتشابه في الفحوى.
شكّلت القصص البداية من طريق “نهاية السكير” وغيرها ثم كانت الرواية في نوافذها المختلفة ومن بينها “التجلّيات” وعناوين بالعشرات في سياق رصيد خصب. راق الغيطاني التعرّج بين الأساليب ربما لأنه لم يخشها، والحال انه غرف في لحظة محددة من التأمّل وفي لحظة أخرى من الحكاية الشعبية ومن غيرها. وعن هذا التوزّع أشار إلى حاجته إلى اجتياز الضفاف مُشددا على ان زنزانة الأسلوب هي رديفة الزنازين في المُطلق، وأن الحرية تظلّ الحاجة الملحّة.
خاوى الغيطاني السجن المادي في زمن الرئيس جمال عبد الناصر وفهم معنى الهزيمة الأقسى في 67، لتشكّل الصدمة الدافعة للبوح في وسط أبناء جيله من الكتّاب أما الحرية فأصرّ على حملها كتميمة. افتتن الغيطاني بالمتصوّفين وتمهّل عند ابن عربي، وكان يكفي اعلان خبر رحيله ليشحذ المتطرفون سكاكينهم لأنه لم يوفّرهم في نصوصه. كان يكفي أن يغمض عينيه لتصير تجربة حياته مصدر شماتة وتشفي مارسها مناصرون للإخوان المسلمين خرجوا إلى منصات مواقع التواصل الحديثة للقدح والذم.
قال الغيطاني مرة في حديث صحافي انه لا داعي للكتابة في حال خفنا. كان يكفي أن يدخل الرجل إلى التاريخ والإرث ليجعلهما مرتعا للتصوّر لكي نتيّقن ان كثيرين في بيئتنا العربية يحترفون إعدام الخيال، وأن دعاة السكوت المطبق يطمحون لكي يشكلوا حزبا جماهيريا.
——
النهار

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *