*أمير تاج السر
في الأسبوع الماضي، وبعد غيبوبة مرضية كبرى، استمرت أكثر من شهر، رحل الكاتب العربي القدير جمال الغيطاني، وقبل أشهر عدة، رحل عبد الرحمن الأبنودي ومحمد الفيتوري، مبدعا الشعر العظيمان، اللذان كانا يحترمان القصيدة، ومجدها وصناعتها، وصوتها الوطني أيضا، ولم تتورط قصائدهما في ما لا يليق بالشعر أبدا، كما أعتقد، ومنذ سنوات عدة، قريبة وبعيدة، رحل معلم الرواية الطيب صالح، ورحل عبد الرحمن منيف ومحمد مستجاب، وعبد الحكيم قاسم، وغابرييل غارسيا ماركيز، وعشرات ممن اشتغلوا بالعبارات الجيدة، والحكي المتقن، وأوزان الشعر، ونقلوا المعارف المتنوعة، أو المتع العظيمة لقطاعات كبيرة من الناس، خاصة في تلك الأزمنة، قبل أن تكتشف التكنولوجيا الحديثة، حين كانت القراءة شعلة متقدة، وإدمانا رائعا للكثيرين.
ولو تأملنا منظومة الرحيل هذه، وخساراتنا بمن انضموا إليها وينضمون كل يوم، لما كان ثمة وقت أو مزاج للإبداع، ولجلسنا كلنا، مبدعين وقراء لنتاج المبدعين، ننتظر تلك الساعة الأخيرة التي يعقبها انتهاء الرمق، وموت الخلايا، وربما الفناء النهائي حتى في الصيت وتذكر ما كنا نقدمه أحياء.
أذكر وأنا أنتظر مع أخي فيصل، ومئات من الأهل، ومعارف الطيب صالح وعشاق فنه الجميل، في مطار الخرطوم، ننتظر جثمانه القادم من لندن، ليدفن في وطن هو أحد الذين كتبوه بحنكة، وحملوا صيته للعالم، أن تذكرت كتابات الطيب كلها، وحديثه الجذاب، وصوته القوي المتمكن الهادئ، وذاكرته التي كانت تسع كل شيء وتحمل الكثير من الأصيل والمعاصر، وتحسرت أن الطيب لن يتمكن بعد الآن، من إرخاء أذنيه لحكي حكاء أو ثرثرة قروي يلاقيه، أو هذيان سياسي من أولئك الذين اعتادوا إغراقه بالتفاهات، التي يتقبلها بأوسع ابتسامة. وحين دفناه في مقبرة البكري الموحشة في أمدرمان، بجوار شخوص تشبه أسماؤهم، أسماء شخوص كتبها في رواياته، قررت شخصيا أن أتوقف عن الكتابة نهائيا، حتى لا يصادف أن يحبني أحد، وأن يتذكرني بحزن في ما بعد، لكن ذلك لم يحدث مع الأسف، واستمررت في هذياني، الذي أتوقع أن يستمر حتى أتوقف مجبرا لا باختياري.
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كنت على وشك أن أنهي دراستي في مصر، التي استمرت سنوات. كنت أؤمن بالشعر وجبروته وأكتب القصائد التي كنت أظنها عرائس مزركشة تختال وأختال معها وكانت مجرد قصائد، يكتب مثلها وربما أفضل منها، معظم شعراء تلك الفترة.
تلك الأيام، كنت أكثر من الجلوس في المقاهي القاهرية، التي يرتادها الأدباء، حيث المعرفة تكتسب في جرعات قليلة وعابرة، ولكن ذات جدوى في كثير من الأحيان، وحتى أكثر من جدوى المكتبات. تعرفت إلى كثير من الشعراء والكتاب والنقاد، وأشخاص لا علاقة لهم بكل ذلك، لكنهم يحبونه، واقتربت من مبدعين كثيرين بصفة إنسانية، حيث ساعدوني في النشر، وتقوية قصائدي، والآن حين أعود بذاكرتي لأيام البدايات تلك، لا أعثر على كثير من الضحكات التي كانت تجلجل، والنقاشات التي كانت تجري في حق كتاب معين، أو كتب معينة يتفق عليها الجميع، والغضب الذي كان يستعر أحيانا بسبب وبلا سبب، وحتى الغطرسة التي كانت تلائم سلوك البعض، بوهم التميز،، فقد انضم إلى منظومة الرحيل، مبدعون تعلمت منهم، ومبدعون تعلموا معي، ومبدعون جاءوا ليتعلموا من جيلنا نحن.
كان جمال الغيطاني لامعا جدا في أواخر الثمانينيات. كان كاتبا مرموقا تقترن بتذكره واحدة من روايات العرب المهمة، هي رواية «الزيني بركات». كانت من أوائل روايات التاريخ المتخيل، الذي قد يبدو للقارئ تاريخا حقيقيا، حيث تقوم شخصية بدور بطولي في النص، تغرس في فترة ما، ويقوم الكاتب بتشريح تلك الفترة، مستخدما شخصيته وظلالها. كانت رواية عظيمة، أدارتها شخصية الصاص الزيني، في عهد المماليك، وصنعت لكاتبها مجدا مبكرا، وحظا جيدا سيلازمه بعد ذلك. هي لم تكن روايته الأولى بلا شك، فقد كتب قبلها، لكنها روايته التي فتحت الباب.
لم يكن جمال الغيطاني من رواد مقاهينا المزدحمة بالثرثرة والتبغ، والنقاشات المتشعبة، تلك، ولا شاهدته ذات يوم في وسط البلد، أو على الأقل في الأماكن التي كنت أذهب إليها، في فترة شاهدت فيها نعمان عاشور، ومحمد مهران السيد، وفاروق عبد القادر وآخرين، ما زال بعضهم يواصل نهج الإبداع، وكان أن ذهبت لمقابلته في مكتبه في مؤسسة أخبار اليوم، حاملا روايتي الأولى التي أنتجتها في زمن الشعر. روايتي كرمكول الصغيرة المكثفة، التي عبأتها بالخيال ومفردات الشعر، وشيء من الحكي ،ولكن سيحتفي بي الغيطاني، احتفاء كبير، وسأخرج من مؤسسة أخبار اليوم، بعد أكثر من ساعتين، كاتبا جاء اسمه واسم كتابه، في صفحة الثقافة، وأجري معه حوار سينشر بعد ذلك، وسيلفت كثيرا من الأنظار.
بعد تلك الفترة، التي كانت أخصب فترات التلقي المعرفي، بالنسبة لي كما أعتقد، كنت ألتقي بالغيطاني، ألتقيه حين أزور القاهرة، وحين يزور هو بلدا أكون في زيارته، في الوقت نفسه. أهديه ما تطور من كتابتي، ويهديني إنتاجه أيضا، بلا أي إحساس بأنه يهدي كاتبا أصغر أو أقل درجة، وكان ان التقيته آخر مرة في الشارقة، منذ عامين، وكان برفقته أصلان، أحد معلمي الكتابة الذين انضموا إلى منظومة الرحيل أيضا.
الإبداع جمر في حياة المبدع، يحرقه باستمرار، وحبل يخنقه في رقبة الإحساس، ليعمل، لكن الرحيل، إن كان مباغتا أو متوقعا، يوازي جمر الحياة كله.
حين يرحل شخص عادي، عاش بعيدا عن الجمر، تقتصر الذكريات معه عند قليلين، هم أهله وأصدقاؤه، وربما زملاء مهنة كان يمتهنها، وحين يرحل حامل الجمر، الذي استمتع بشقائه الآلاف، يصبح التذكر معضلة.
_______
*القدس العربي
شاهد أيضاً
فرويد وصوفيا في جلسة خاصة
(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …