عن مُتعة مصاحبته الى مطارحه الأثيرة


*عناية جابر



لن أزايد على المصريين في الكتابة هنا عن راحلهم الكبير الأديب جمال الغيطاني. إنه ابنهم وأديبهم وفخرهم، وهم على دراية به أكثر منّي، سوى أنني أنتصر هنا لعلاقتي بنفسي وبوفائي للرجل ولأدبه. أكتب إذن في الجزء الذي يعنيني كمتابعة لأعماله، وأكتب في الجزء الأكثر خصوصية، المتعلّق بوفائي للرجل الذي دأب على تكريمي وإحاطتي في ترددي المتقطع الى القاهرة التي أُحبّ، لمّا أن كرمهُ كان يُخجلني، وتُخجلني متابعته العارفة لما كنت أكتبه حينها في “السفير” وفي “القدس العربي” إلى مساهمات في “أخبار الأدب” التي كان يرأس تحريرها.
كان هناك دائماً، جمال الغيطاني في سفري المكوكي الى القاهرة. كانت “أخبار الأدب” وكان أصدقائي، عزت القمحاوي ومنصورة عزّ الدين ومحمد شعير وحسن عبد الموجود. كان هناك دائماً، الغيطاني أقنص من وقته بضعة عشيّات، يُهديني فيها مُتعة مصاحبته الى مطارحه الأثيرة، الى “الحسين” خصوصاً، مزارنا المفضّل في جلّ أماسينا معاً.
أدخل إليه في مكتبه فتُشرق عيناه مع إبتسامة ضنينة الى حدّ، نرشف القهوة مُتمهلين في سرد وتبادل الأحوال، ثم نخرج الى أحد أماكنه التي غدت أماكني من كثرة ما يغدقه عليها من معرفة وإحساس. إحساس بالمكان وبحجارته وكان الأمر يذهلني. نخرج الى أماكنه التي يكون حددّها لزيارتي، مرتبكة وسعيدة برفقته المهيبة.
في السيارة وقد وضع في جهاز التسجيل: “البيض الأمارة” لنسمعها معاً، وكنتُ أهديتهُ الأغنية مُسّجلة بصوتي، فيروح يسأل سائقه: هل تعرف صوت من هذا؟ هل تعرف من تُغنّي؟ وإذ يتلعثم السائق في من تكون صاحبة الصوت، يقول له الغيطاني: إن هذا الصوت الكبير لهذه السيدة الصغيرة التي تجلس في الخلف. هل تسمع هذا الصوت؟ هذه السيدة التي نُقلّها هي صاحبتهُ، وهي صديقتي. وإذ يُلقي السائق نظرة عجلى في المرآة الصغيرة العاكسة أمامه الى صاحبة الصوت، يُهمهم الغيطاني منتصراً: أجل إنها هي من تُغنّي “البيض الأمارة” لعبد الغني السيّد، فلا أتمالك الشعور بالزهو والخجل من إطراء “الأستاذ” الذي كنت قرأت له أهمّ أعماله الأدبية من “أوراق شاب عاش منذ الف عام ” بتلك اللغة التاريخية المملوكية التي تستهوي الغيطاني الى “الزيني بركات” وتجلياته وكتاباته عن مصر.
هاتفت يوماً زوجته السيدة ماجدة الجندي في أميركا، تقف على راحته في غرفته في المستشفى، إثر عملية في القلب كان أجراها هناك منذ سنوات. سألت السيدة اللطيفة أن أسمع صوته، وسمعتهُ لاهثاً مُتعباً. واظبت طويلاً في بيروت على متابعة حلقات برنامجه، يُعيننا بخبرته الواسعة وبحبه وبتعلّقه بتراث مصر العظيم على معرفة ما نرى ونشاهد من أماكن على صلة عميقة بحضارة مصر وتاريخها.
_____
*الأخبار اللبنانية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *