السريالية العربية.. نسخة باهتة من الفلسفة الشرقية


*محمد الأسعد


طبعة السريالية العربية، وكان قد أشار إلى ملامحها في الشعر الراحل عصام محفوظ في كتابه «السريالية وتفاعلاتها العربية»، وربط أدونيس زمامها بصوفية أسلافنا في كتابه «الصوفية والسريالية»، هذه الطبعة التي أغوت مبكرا شعراء مثل أنسي الحاج صاحب «لن والرأس المقطوع»، وقبله كاتب وشاعر مثل جورج حنين صاحب «بلاء السديم»، وبعض ممن هم أقل أهمية وموهبة، هي نسخة من الدرجة الثالثة عن الأصل الشرقي الذي تتضمنه تعاليم فلسفة «الطاو» الصينية وبوذية «الزن» اليابانية، أي أنها تبتعد عن الأصل درجتين. وهي بحالتها العربية هذه تمثل صدى صوت هو ذاته صدى لصوت آخر، طرق الأسماع قادماً من الغرب، في الآثار الأدبية والتشكيلية والنقدية، على أنه صوت «أصيل» بينما كان في الحقيقة صدى لصوت قادم من الشرق، ومن أعماق تاريخ غارق في القدم. إنها الصدى الذي لم يعرف من استقبله من العرب، مرحباً ومستهجناً على حد سواء، من أين تلقفه الغرب، وهل أحسن التلقف أم جاء تلقفه تحريفاً للصوت الأصلي، وترجمة لم تفهم تماماً أبعاد ما تترجم، ولا مغزاه الفلسفي والديني.

كان الأمر بالنسبة لي مفاجأة، حين اقتربتُ في قراءاتي من النصوص الشرقية، وبخاصة كتاب «الطاو» و«ممارسات رهبان الزن»، وتذكرتُ ما مررت به من كتابات السرياليين وفلسفة «هايدجر» و«نيتشة» الألمانيين، فوجدتُ بين يدي أصول أفكار السرياليين وأفكار هذين الفيلسوفين بالذات في نصوص الفلسفة الشرقية. قبل ذلك كان «هرمان هسة» الألماني، صاحب رواية «الكريات الزجاجية» وقصة «سدهارتا» قد كشف عن رحلاته إلى الشرق، وعرض أكثر من مترجم في النصف الثاني من القرن العشرين كتابا صينياً شهيراً باسم «كتاب التغيرات»، رأى فيه علماء نفس وفلسفة غربيون مستشاراً لجأوا إليه لينبئهم بما يجهلون، وأحاطوه بهالة سحرية بوصفه يتضمن رمزياً كل ما يمكن تخيله من أنماط تتخذها الأحداث الكونية.
عرب السريالية وحدهم لم يمتد بصرهم إلى أبعد من أفق «بريتون» الفرنسي، و«أراغون» و«دالي» وبقية أتباع هذه الموجة من الذين استقوا من النبع الشرقي وعادوا ليبشروا الظامئين بميلاد عباقرة يتحدثون اللغات الأوروبية. عرب السيريالية وحدهم، الذين خيم عليهم الجهل بالشرق منذ أن قطعت طريقهم إليه مدافع البرتغال والفرنسيين والانجليز قبل ما يقارب خمسة قرون، هم وحدهم الذين انشغلوا بالبحث عن أسلاف عرب «سيرياليين» بين شعرائهم، فوصل أحدهم، وقد فهم أن الكتابة السيريالية هي إملاء الذهن في غياب أي رقابة عقلية، إلى حد القول ان الشعر العربي طوال عمره خارج الواقع وخارج العقل، ولكنه يتحرك من داخلهما في الوقت نفسه.
أصول السيريالية، التي فهم مروجوها العرب على أن مصدرها اللا وعي واللا عقل، تكمن في الفلسفة الشرقية، سواء تعلق الأمر بتعريف السيريالية للإبداع بوصفه حالة عاطفية-فكرية تنبثق من علو على أنساق التفكير الواقعي المعتاد، أو بماهية ما يسميه هايدجر «الوجود الوثيق» أو «الوطيد» أو «الصادق» كضد للوجود الزائف غير الحقيقي، أو بفكرة نيتشة عن ما يسمى في الترجمة الإنسان المتفوق أو السوبرمان، الذي هو ذاته الحكيم الطاوي في علوه على الخير والشر، «نيتشة» الذي نسب إلى نفسه فكراً لم يكن إلا أحد كالمتشعبطين» على أسواره، فأدهش بل وصعق الغربيين الذين كان الشرق بالنسبة لهم آنذاك توابل وذهباً وخزفاً وقطناً وموانئ تستورد بضائعهم، بما فيها المخدرات. وكان الأكثر مفاجأة بالنسبة لي أن محاولات هؤلاء السيرياليين لتخطي الفلسفة الغربية ونقد تاريخها الممتد طوال أكثر من ألفي عام، إنما جاء بتأثير فلاسفة الفلسفة اليونانية المبكرة، هيراقليطس وأمثاله، التي هي ذاتها ذات مصدر شرقي، والتي قالت منذ أقدم الأزمنة بوحدة الوجود، والعلائقية، ومبدأ اللا يقين، واحتفظت بفكرة مستويات الفكر الثلاثة؛ الأدنى والمتوسط والأعلى، ولم تصب الفلسفة بوباء الثنائية إلا تحت تأثير مراحل يونانية متأخرة، ومنها جاءت الثنائية إلى ثقافتنا العربية.
بالطبع لم يعترف السرياليون الغربيون بأنهم ترجموا الفعل التلقائي الذي يكمن خلفه تمكن وخبرة سنوات، «افعل وكأنك لا تفعل»، في الحكمة الطاوية إلى مصطلح سخيف اسمه «الكتابة الآلية»، ولا اعترف «نيتشة» بفضل الحكيم الطاوي عليه، وهو يقدمه تحت عنوان «هكذا تكلم زرادشت»، ولا هايدجر اهتم بنسبة تقسيمه الوجود إلى وجود «حقيقي عميق» و«زائف على السطح» إلى مذهب الزن البوذي. ولكن إذا كانت لهؤلاء أسبابهم، فلا سبب لدينا يمنعنا من كشف هذا «التلقيح» الثقافي في أحسن الحالات، أو «السطو» الثقافي في أسوأ الحالات، ما داموا لم يرجعوا الفضل لأصحابه، كما فعلوا مع بقية منجزات الحضارات التي أحرقوا خزائنها بعد أن نهبوها حتى لا يُعرف من أين جاؤوا بغنائمهم.
ولا أعتقد أن أحداً من هؤلاء اهتم بمعرفة أن مفهوم «ما فوق الواقع» (الترجمة الحرفية للفظة السريالية) مصدره مفهوم الوعي المتجاوز الذي يعلّم فلاسفة «الزن» تلاميذهم طرائق الوصول اليه بإلغاء مناهج الفكر المنطقي المعتاد، أو ما يسمى الفكر المتوسط، سعيا إلى حالة فكرية عليا، سماتها، بدلا من التفكير المنطقي، الحدس والرؤيا والكشف. أليست هذه هي المصطلحات والمفاهيم ذاتها التي تكثر في كتابات السرياليين الغربيين، إلا أنهم يخفون أصولها كنهج معروف في أقصى الشرق منذ قرون طويلة، ويأخذها عنهم هذا وذاك عندنا محاكاة وتقليداً؟
وحين يقول هؤلاء ان طرائق الوصول إلى هذا الوعي، المتجاوز للوعي العادي أو المتوسط، تحتاج إلى «تدريب» إنما يردّدون حرفياً ما يعرفه أصغر طالب من طلاب «الزن». وحين يتحدثون عن مصطلح ما سمي «بالكتابة الآلية» كطريقة للوصول إلى مرتبة الفكر الأعلى، الحدسي، المباشر، الرؤيوي، إنما يكررون في الحقيقة مفهوم الطاوي الذي يود أن يصل بالتدريب المتواصل إلى حالة تكتب فيها الكلمات ذاتها بلا مجهود ظاهر، أو يُطلق الإنسان السهم، فينطلق كما لو أنه انطلق ذاتياً.
تلقائية أوعفوية الفعل التي يصل إليها فيلسوف «الطاو» بعد تنسك شاق، ويصل إليها معلم «الزن» بعد تدريب متواصل يمتد سنوات وسنوات، هي ما تُرجمت خطأ بتعبير«الكتابة الآلية» أو «إطلاق كوامن اللا وعي» وما إلى ذلك. ولكن ما تكشف عنه «سريالية الشرق» ليس شيئا «فوق الواقع» مفارقاً له، كما أوهمنا «بريتون» و«دالي» وأضرابهما، وكما نقل عنهم المحتطبون بليل من كتّاب وشعراء ونقاد عرب، بل هو الواقع ذاته منظورا إليه في أعماقه، في المهاد المحيط بكل شيء، أو هو واقع أشدّ واقعية من الواقع، ذلك الذي لا يُمسك به إلا أنه يقوم في أساس كل شيء.
لهذا السبب، سوء الترجمة، ولسبب آخر يتعلق بنزعة الغربي في التنكر لكل نبع ورده، قدّمت السريالية الغربية نفسها «ككشف غربي أصيل» للأذهان العربية، وقدمت مع كل هذا إساءة تأويل لأكثر فعاليات الفكر الإنساني تأثيراً ومعنى في الشرق البعيد. ومن هذه الوجهة جاءت السريالية «العربية» بأطروحاتها العجيبة عن «رفض الواقع»، و«رفض ما هو تاريخي» و«تمجيد كل ما هو غير عقلاني»، وزج اللغة العربية في لعبة «المصادفة» الطريفة التي مارستها «الدادائية» في مقاهي زيورخ خلال الحرب العالمية الأولى. بل وعودة بعضهم إلى حماقات «أبو العبر» واعتبارهم سلفاً سيريالياً مبكراً من العصر العباسي. وكل هذا بالطبع لا علاقة له بالنزعة الخلاقة التي يستحثها الفكر الطاوي وبوذية الزن في سعيهما إلى تطوير رؤية شاملة إلى الوجود الإنساني والطبيعي عمادها وحدة الوجود.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *