*إبراهيم صموئيل
نعمة كبرى أن يكون الكاتب على قناعة تامّة، راسخة، من أنه ليس موظفاً لدى مؤسسة اسمها: الكتابة! فقناعة كهذه تجعله حرًّا، طليقاً، هانئاً، دون أيّ “كفاح” أو جهد يبذله، أو متاعب تظلّ تلاحقه وتُصدّع رأسه. يكفي أن تكون هذه القناعة صميمة، وعلى نحو حقيقيّ، ليكون حرًّا.
وهي نعمة لأنها تُحرّر الكاتب من كل قيد أو ضغط أو إلزام أو شعور بالتقصير أو شك بالمقدرات أو حرص على مراعاة العقد الضمني غير المكتوب… إلخ. تحرّره من قلق لطالما رافق كتّاباً وجدوا أنفسهم أسرى الكتابة، أو على الأدق رهنوا أنفسهم لها فباتوا رهائنها.
ولكن، من أي قيدٍ هو حرٌّ وطليق؟ من قيدين اثنين: قيد اعتقادٍ يتلبّسه ويسيطر عليه مفاده أنه إذ اختار الكتابة حقلاً وطريقاً وشاغلاً -أو اختارته الكتابة وانبثقت منه- فإنّما عليه أن يمارسها على الدوام، وينتج من حقلها عملاً بعد عمل. والقيد الآخر يتمثّل في مطالبة قرائه، وإلحاح أصدقائه ومعارفه على ضرورة أن يكتب المزيد، وألاّ يتريّث أو يسترخي، خصوصاً أنّ سؤالاً حمّال أوجهٍ سيُوجّه إليه ما دام حيّاً: ما جديدك؟
في قيده الأول سيكون ضحية لاعتقادٍ يصوّر له أنه موجود ليكتب فقط، لا صفة أخرى لوجوده. فما دام اختار الكتابة لا بدّ أن يظلّ مملوكها، ويحرث أرضها، ويخدمها وينتج، وإلاّ اتّهم نفسَه -قبل اتّهام الآخرين له- بنقص الجدارة، ومحدودية الموهبة، وضعف الخصوبة، وانهيار المبرر الرئيسي لحياته؛ مما يوقعه في عذابات نفسية مريرة لا طاقة له على تحمّلها!.
موهبة وخصوبة
وفي قيده الآخر، اعتقاد قرائه ومحبي أدبه من أنه إذ أثار إعجابهم ونال تقديرهم جرّاء عمل له أو اثنين أو ثلاثة، فقد أضحى لزاماً عليه مواصلة الإنتاج والاستمرار في إثارة الإعجاب ومواصلة حفز التقدير، وإلاّ فسيضعونه داخل دائرة الارتياب والتشكك لو حدث وأجاب بالنفي عن سؤالهم الدائم: “هل من جديد لديك؟”
ولعلّ من أوجع وأمضّ وأشقى ما يُصيب الكاتب، ويصعب عليه تحمّل آثاره وتبعاته، هو شعوره من أن قريحته نَضَبَت، أو أن مقدرته على المزيد نفدت، وهو ما يدفع الكثير من الكتاب -في محاولة منهم للنجاء من هذا الشعور أو من ضغط الآخرين- إلى مواصلة الكتابة وإصدار الأعمال، بأيّ ثمن، وعلى أيّ انخفاض للمستوى كان.
الكاتب الحرّ -أعني الذي لا يرى في نفسه إلا كاتباً ليس إلاّ، متعاقداً مع مؤسسة الكتابة، وملزماً بالإنتاج لها ما دام حيًّا- لا يدهمه شعور كذاك، ولا تداخله وساوس وأوهام بالنضوب أو النفاد أو هرم الموهبة. هو يكتب، أو يتوقّف عن الكتابة، حين يشاء له الهوى فحسب. وفي الحالين: حين يكتب لا يداخله أيّ شعور ضاغط بالإلزام أو الضرورة، كما لا يداخله حين يتوقّف عن الكتابة أيّ شعور داخليّ بالذنب أو التقاعس؛ هو يكتب ليُلبّي رغبة لديه، ويتوقّف تلبية لرغبة لديه، وفقط.
والكاتب الحرّ ليس رهين المحبسين لا المحابس، لا تحكمه الغزارة في الكتابة، ولا يُؤرّقه عدد الأعمال الصادرة له، ولا يشغل باله إنْ هو لها عن الكتابة بما يتعلّق بغيرها من متع حقول الحياة، ولا يضغط عليه الإلحاح المُحب من أصدقائه بلزوم إصدار جديد، ولا يقلقه التصريح بخلو جعبته جواباً على السؤال التقليدي: ما النتاج الجديد الذي لديك؟.
قميص الكتابة
بلى، يكون الكاتب الحرّ عاشقاً للأدب، وحالماً بتغيير العالم، وذا موهبة أدبيّة أصيلة -كغيره من المبدعين تماماً- سوى أن اختلافه الحاسم عنهم يكمن في أنه لا يرتكز بحياته على معطى واحد، ولا يُشيد وجوده على صخرة مفردة، لو تكسّرت لانهار معها وتكسّر، بل يفتح الأبواب والنوافذ ليدلف الأدب، وتدلف مع الكتابة والأدب، المفرداتُ الأخرى للحياة -وما أكثرها- إلى مملكته وعالمه.
إنه حرّ إلى درجة لا يداخله التردّد في “خلع قميصه” -على طريقة الرياضيين في الاعتزال- حين يشعر بأن القميص ضاق بجسمه، أو تهرّأ، أو بهُت لونه، أو يشعر بأن جسمه نفسه قد تهدّل أو ضاق بالقميص، أو حتى -من دون ذلك كلّه- لمجرّد أن روحه عافت “قميص” الكتابة. وهو بهذا لا يُصرّ على حمل القلم ما دام حيّاً، ولا هو يُسارع إلى رميه عند أول شعور بالكآبة أو الملل أو بعدم الجدوى.
هل من المغالاة القول: ليس أوسع فضاءً للمبدع، ولا أعمق حرية، ولا أبعد تحليقاً، ولا أغنى تعبيراً، من أن يُنجز ما لديه وهو على قناعة داخلية عميقة بأنه ليس مرتهناً للكتابة ولا مرتبطاً بميثاق مع أحد -حتى مع نفسه- بأن ينتج وينتج إلى أن يقضي الله أمره؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وقاص سوري
*المصدر: الجزيرة