نازك سابا يارد
اختيرت رواية النيجيري أوبيوما «صيادو السمك» في القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» الإنكليزية لهذا العام.
تدور أحداثها في مدينة نيجيرية صغيرة في منتصف تسعينات القرن العشرين، وأبطالها أربعة إخوة أصغرهم «بِن» في التاسعة من عمره، وهو راوي القصة. حين نقل والدهم الموظف إلى مدينة أخرى وتحرّر الصبيان من سلطته، أقنعهم رفيق بلذة صيد السمك، فأخذوا يذهبون بعد المدرسة لصيده في نهر ممنوع. استمرّ ذلك إلى أن قرّر كبيرهم، «إيكينّا»، أنه ليس صياداً، وإنما يريد الدرس، فتبعه إخوته. لاسيما بعد أن كان والدهم يكرّر أنه يعمل ليل نهار ليدخلهم أفضل المدارس كي يصبحوا أطباء، مهندسين، محامين وما شابه. ثم تغيرت تصرفات «إيكينّا»: رفض التعامل مع أخويه الأصغرين «أوبمبي» و «بِن» وبعد ذلك مع رفيقه في غرفة نومه «بوجا» ولم يعرفوا سبب إعراضه عنهم. وازدادت تصرفاته غرابة حين أخذ يجيب أمه بوقاحة ويرفض أن يطيعها مع أنه كان يحبها في السابق حباً منقطع النظير. ولما طلبت منه أن يذهب لشراء دواء لأخيه المريض ورفض، أخذ الأخوان الأصغران المال. وإذ عرض «بِن» الذهاب معهما، قالت الأم «اثنان كافيان» (ص60) فيعلّق الراوي على كلامها بأنه كان نذير ما سيحلّ بأسرتهم بعد بضعة أسابيع.
وحين ازدادت تصرفات «إيكينّا» غرابة، فقاطع إخوته ومزّق روزنامة كانت عزيزة جداً على قلوبهم، حاولت الأم أن تستنطق الأولاد لعلهم يعرفون سبب تحول أخيهم الغريب. فاعترفوا بأنهم قابلوا المجنون أبولو الذي تنبأ أن أحد الإخوة صيادي السمك سيقتل أخاه. وعليه، قرّر إيكينّا أن أحد إخوته سيقتله، لا سيما بعد أن رأى سكان المدينة أن بعض نبوءات المجنون كانت تصدق. عبثاً حاولت أمه إقناعه بأن إخوته الذين يحبونه أكثر من أبيهم نفسه لا يمكن أن يؤذيه أحدهم. وحين طلبت منه الذهاب معهم إلى الكنيسة كي يصلي ويزيل عنه لعنة المجنون رفض. بل توقّف عن الذهاب إلى الكنيسة معلناً انه لا يؤمن بوجود الله. وبدأ يؤذي إخوته، ومنع أخاه بوجا من النوم معه في غرفتهما، ودفعه على صندوق من الحديد شقّ رأسه حتى سالت دماؤه، وأخذ يتلف أعز مقتنيات الإخوة، كالجريدة التي فيها صورهم وقصة تخليص إيكينّا لهم من الموت حين حاصرتهم تظاهرة سياسية عنيفة. فاقتنعوا بأن إيكينّا فقد عقله. وذات مساء، عاد بِن وأوبمبي إلى البيت فوجدا المجنون أمام بيتهما يلفظ اسم إيكينّا. وفي الليلة نفسها تضارب إيكينّا وبوجا وتحوّل تضاربهما إلى صراع دموي، فركض أخواهما الأصغران يستنجدان شخصاً بالغاً، وحين عادوا لم يجدوا إيكينّا وبوجا وإنما ملابس ممزقة، ونهراً من الدم وسكين المطبخ في بطن إيكينّا المقتول. أما بوجا فاختفى.
استقال الوالد من وظيفته ليعود إلى أسرته المنكوبة، دفنوا المقتول وخلال خمسة أيام ظلوا يبحثون عن بوجا إلى أن اكتشفته امرأة غريقاً في بئر كان قد انتحر فيها. أما الأم ففقدت عقلها فأدخلها زوجها مستشفى للأمراض العقلية وقام الأب بالمهام المنزلية. حين عادت الأم إلى البيت حرقت كل ما يمت بصلة إلى ولديها الميتين كي لا تمتدّ لعنة المجنون إلى بقية أفراد الأسرة. في هذه الأثناء كان صديق لوالدهم قد عرض عليهم أن يهاجروا عنده إلى كندا، وسافر الوالد إلى «لاغوس» يهيئ جوازات السفر والفيز واعداً أسرته بحياة جديدة ومدارس ممتازة هناك.
إلا أن أوبمبي وبِن نويا أن يثأرا لأخويهما من المجنون. بعد استعراض طرق عدة للانتقام منه، قرّ قرارهما على قتله بقضيب صيد السمك. ذات مساء، غافلاه قرب النهر وانهالا عليه بالقضيب يسلخان به قطعاً من لحمه ثم رميا جثته في النهر وعادا إلى البيت. ولكن أحد الجنود كان قد رآهما. فحين سمعا طرقاً عنيفاً على باب البيت بعد ليلتين، وضبا ملابسهما بسرعة وقفزا من شباك غرفتهما هاربين. إلا أن بِن فكّر في والديه وقرّر العودة، فيما أكمل أخوه الطريق وحده. قبضت الشرطة على بِن، وحكم عليه بالسجن ثماني سنوات، لم يبالِ بها لأن والده هنأه وأخاه المختفي على انتقامهما من المجنون. في السجن كان بِن يتلقى رسائل من أوبمبي الذي أخبره أنه وصل إلى مدينة عثر فيها على امرأة حضنته وحوّلته «إلى رجل» إلا أنه لم يفهم ما يقصده أخوه. حين أفرج عن بِن وعاد إلى البيت، رأى خيالاً يتسلّق سور حديقتهم. أخوه أوبمبي؟ أم خيال ظنه أخاه؟
بهذا الغموض تنتهي هذه الرواية الطريفة التي رويت من وجهة نظر ولد في التاسعة.
إنها رواية مفعمة بالعاطفة الأخوية والمحبة. فبعدما قُتل إيكينّا يشبهه بِن الصغير بعصفور دوري متذكراً حبه للجميع: الكبير والصغير، القريب والبعيد (ص2152-153). أو حين اختفى جواز سفر إيكينا الذي استعد للسفر إلى كندا مع صديق والده واعترف بوجا بأنه رماه في البئر كي لا يسافر أخوه الحبيب، سامحه إيكينّا وأكّد أنه هو أيضاً لا يريد أن يسافر بدون أخيه.
ولكن حين تحوّل إيكينّا إلى شخص عدواني خائف على حياته، اتهم أخاه بأنه كان قد أخفى جواز سفره لأنه يكرهه ويريد إيذاءه. فبيّن الكاتب كيف أن مشاعر الإنسان تحوّل الحادثة نفسها من شيء إلى ضده.
ومما يشدّ القارئ إلى متابعة الرواية اعتماد الكاتب التشويق في كثير من فصولها. مثلاً، حين ذبح بوجا ديك الجارة انتقاماً منها «وكأنه متعوّد على استخدام سكين للذبح، وكأنه كان مقدّراً أن يستخدمه مجدداً» (ص45)، يتحقّق هذا القدر بعد فصول عدة حين ذبح أخاه. وإذ يستغرب القارئ تصرفات إيكينّا الغريبة لا يطلعنا على سببها إلا بعد صفحات كثيرة حين يقص أخوه على الأم لقاءهم المجنون ونبوءاته المرعبة. وحين يدخل الأخوان والجار الغرفة بعد سماعهم صراخ بوجا وإيكينا المتقاتلين لا يجدون سوى الدماء والملابس المبعثرة ولا يعرف القارئ دماء من منهما إلا في الفصل التالي.
نضيف إلى ذلك دقة الأوصاف المفصلة، وصفه الشخصيات، رئيسية كانت أم ثانوية، ووصفه العواطف. في صفحات عدة يصف بدقة المجنون أبولو: جسده العاري القذر، شعره الأشعث، حركاته المخيفة الغريبة والمدهشة، صوته المرعب وشبقه الجنسي (ص79-81، و90-95). وقد يكون من أروع أوصافه وصفه المفصل الدقيق للبغض الذي يتغلغل في كيان المرء كما تتغلغل العَلَقة في جلد الإنسان (ص206).
وغني عن القول أن تعكس مثل هذه الرواية البيئة التي تدور فيها الأحداث. تعكس الأحوال السياسية المضطربة نتيجة الصراع بين شمالي نيجيريا وغربها، وقيام مجموعات مسلحة بمحاولات انقلاب على رئيس الجمهورية وما رافق ذلك من تحطيم المحال ونهب وحرق واغتيال. في المعارك التي نشبت بسبب الانتخابات عام 1993 قتل أكثر من مئة شخص، وبعد ذلك في التاريخ نفسه من كل سنة كان بعض المسلحين يهجمون ليلاً على المدينة. وأكثر من الأوضاع السياسية، صورت الرواية الاحوال الاجتماعية في بلد لا يزال قبلياً، لكل قبيلة لغتها الخاصة، وفيما كانت اللغة الإنكليزية لغة البلاد الرسمية لم تستخدم إلا في مخاطبة الأغراب. وبين القبائل عداء عنيف، فحين نُقل الوالد إلى مدينة أخرى رفض اصطحاب أسرته لأن سكانها أعداء القبيلة التي ينتمي هو إليها. وفي هذا البلد الفقير جداً كثر المتسولون والمشوهون في الطرق، وحتى بعض المختلين. ولا غرابة في أن تكون الرشوة متفشية، وأن تكون مألوفة. فحين ذهب الوالد إلى مركز الشرطة ينبئهم باختفاء ابنه طلب منه الشرطي رشوة كي يقوم بالبحث عنه.
ومع أن شخصيات الرواية مسيحيون، فما زالوا يؤمنون بمعتقدات أسلافهم وأساطيرهم القديمة. منها أن لكل إنسان إلهاً خاصاً يحرسه إلا إذا كان هذا الإله ضعيفاً أو عديم المسؤولية فيترك المكلف بحمايته ولا يحافظ عليه. فلأن إله إيكينّا كان ضعيفاً تعرض الولد لحوادث خطرة كثيرة منذ طفولته. ولم يدفنوا بوجا وإنما أحرقوا جثته لأن إلهة الأرض ترفض أن يدفن فيها من ينتحر.
تبقى لغة الكاتب. إنه يدخل بعض التعابير الطريفة من لغة الأبطال القبلية، كقولهم «عِدْ أسنانك بلسانك» بمعنى «انتبه» أو «در بالك» (ص39) أو يعبرّ عن أبسط الأمور تعبيراً شعرياً، كقوله أن لوالدة الأولاد «نسخاً من عقولهم في جيب عقلها» ولذلك كان بإمكانها أن تعرف ما ينوون القيام به من سوء.
ختاماً، إن هذه الرواية استطاعت أن تحسن تصوير نفسيات أربعة صبيان، وعقليتهم، مشاعرهم، وتصرفاتهم، وأن تلقي أضواءً على نيجيريا بكل تعقيداتها التاريخية والسياسية والثقافية. فلا غرابة في أن تختارها لجنة التحكيم لتكون على قائمة «البوكر» الطويلة.
——-
الحياة