كتابة على شاهدة مَهْد!


*خيري منصور


لا يخذل الجسد صاحبه في المرض والموت فقط، بل يصل ذروة الخذلان عندما يجد نفسه أبعد ما يكون عن مهده ولحده معا، وتلك ليست نوستالجيا يفرضها الزمن بقدر ما هي احتكام لبوصلة نفسية وأخلاقية، تكون فيها الجهة الخامسة هي سيدة الجهات. 
لهذا سقط الوطن سهواً من الموعظة الشافعية، حين قال هاجِر تجد عوضا عمّن تفارقه.. ففي قاع الذاكرة وعمق اللاوعي ثمة ما لا يطفو من الماضي، الذي لا يمضي ويكفي لقليل من قطرات المطر الأول في كل عام أن تستنطق الغياب، وأن تكون رائحة التراب أشبه برائحة الحليب الأول على مريلة الطفل، الذي شاء له التاريخ أن يمشي بحذاء غير حذائه وبأصابع عمياء.
لكن لماذا يندلع كل هذا الشّجن كلّما حملت لنا الرّيح رائحة أوشكنا على نسيانها، بسبب ما أصابنا من زكام سياسي لعله الأنكى من زكام الخنازير. أتذكر الآن ذلك الحوار القصير بين يهوديين في اليمن، قبل أن يسطو الغزاة على اللغة والأسماء، ويرفعوا علماً مسدس الاضلاع، قال أحدهما لصاحبٍ أريد أن أهاجر إلى أمريكا.. فأجابه الثاني.. أنها بعيدة، عندئذ صمت الأول قليلاً وقال.. بعيدة عن ماذا؟
لم يكن لديهما يومئذ ما يقاس عليه من مسافات وهو الوطن، أو مسقط الرأس، وها نحن نتبادل الأدوار، بحيث تبدو نيويورك أقرب من نابلس لمن أدرجت اسماؤهم في قائمة الممنوعين من العودة وليس السَّفر كما يحدث عادة في كل البلدان.
كتب اليهودي السّاخط شلومو رايخ ذات يوم متسائلاً، ماذا لو قامت دولة إسرائيل في أوغندا؟ هل كان سيقودها بن غوريون أم عيدي أمين! ثم أعقب ذلك بعبارة ستبقى إلى الأبد صرخة الابن أمام زوجة أبيه، وهي أنك لست أمي، قال رايخ.. إن الممثلين اليهود الذين يلعبون دور الإرهابيين الفلسطينيين لا يحتاجون إلى تغيير ملامحهم. أما شاحاك فقد أصابت جرثومة الكيمياء الحميدة بل الفاضلة مَوْقفه السياسي بالعدوى، فتوصل إلى أن هناك رابع وخامس وعاشر أكسيد البكاء، فلم يشأ أن يكون ذريعة لقتل طفل أو حرقه حيّا، فأعلن العصيان تماماً كما خلعت فيليسيا لانجر الهوية المطرزة بدم أطفال فلسطين ودموع أمهاتهم، وقررت أن ترى بالعين المجردة ما عجزت تلسكوبات لندن و نيويورك وباريس عن رؤيته.
ما تبقى بعد كل هذا التنكيل والأسرلة، والتهويد والعَبْرَنه هو مطالبة الفلسطيني بالاعتذار عن كونه سبباً في فشل الصهونية، فهي مشروع باهظ التكلفة وله رعاة وعرابون ينتظرون هذا الاعتذار بفارغ الكراهية وليس بفارغ الصّبر.
* * *
حين قال الشاعر برخت ماذا أكتب وأنا أرى الدم يسيل في الشوارع؟ كان من حيث لا يدري يصدر بيانا شعريا لا علاقة له بالسريالية أو الدادائية أو حتى الواقعية التي كان يُبَشّر بها.. إنّه بيان عن الكتابة عندما تصبح عبئا على من يشتهي الفرار من رؤية الدم في الشوارع، وهذا ما يحدث الآن في واقع عربي محروم من الشهود، لأنهم في مكان آخر ومنهم من هو في زمان آخر، فالكتابة الآن لا تحتمل ولا تتيح أي أكروبات لغوية، ومجازفات واستعارات تحذف الفارق بين المستوطن والمواطن وبين القاتل والقتيل، فالمعادلة الآن كما اختصرها عاموس كينان عندما أرسل برقية لمحمود درويش يقول فيها: لنحتكم بعد اليوم للبندقية.
كان ذلك رداً عاجلاً على قصيدة عابرون في كلام عابر، التي أمر فيها الشاعر غزاة بلاده بالخروج من جسدها وملحها وبرها وبحرها، هنا يعود شلومو رايخ كي يتولى الرّد على توأمه اللدود كينان فيقول: «الصهيونية تعبير عن مشاعر اليهود» انطلاقا من الكراهية، لهذا فهي لن تكون ذات يوم حركة قومية.
أما ميشيل مزراحي التي اقتفت خطوات فيليسيا لانجر وخلعت الهوية المطرزة بدم الأطفال فقد أضافت أنهم الآن يعرفون العربي من عينيه اليهوديتين، وكأن هناك تهويداً آخر أشد عمقا من تهويد الأمكنة وعبرنة الأسماء، فهل كان على اليهود أن ينتجوا يهودهم كي لا يبقى الإسخربوطي عاطلاً عن العمل والصلب معاً.
* * *
أحمل في جبيني جرحاً لم يندمل منذ أكثر من نصف قرن، لم يكن من رصاصة أو هراوة، بل كان من غصن شجرة دافعت عن عُشّ كنت في طفولتي قد عثرت عليه وأنا اتسلق الشجرة، هنا يصبح المجاز واقعاً بامتياز، كما هو الخيال واقع مركز تبعا لما قاله إرنست فيشر، فالشجرة دافعت عن طائر لاذ بها، فكيف لا تدافع هذه الغابات البشرية عمّن لاذوا بها وهم يحملون أطفالهم على الظهور والبطون كالكنغر؟
هذا السؤال ليس استنكاريا، إنه من إفراز فائض الفضول لدى طفل أصرّ على الإقامة في باطن رجل تجاوز السّتين، سؤال أخلاقي ووطني يتهرب ثلث مليار عربي من الإجابة عليه، لأنهم غرباء في عقر أوطانهم ومن لا يملك الشيء لا يعطه، لقد أخطأت الحواسيب القوّمية كلها في إحصاء عدد القتلى والأسرى واللاجئين، فالأمة بأسرها وأسراها هي الآن مدرجة على قائمة اللجوء، لأن الإفراط في العدمية والتعويم أدى إلى تفريط بأعزّ ما ورثنا. وهما التؤامان الخالدان.. الوطن واللغة!
لقد حاول دويتشر تبسيط المسألة، حين قال إن يهوديا احترقت شقته في الطابق العاشر فقفز من النافذة، وسقط على عربي كان يعبر الشارع فكسر يديه وساقيه.. والحقيقة أن ما سقط من تلك الشقة المحترقة هو النار ذاتها فأحرقت ولم تكسر فقط ويبقى السؤال مدببا فينغرز في كل العيون التي تصاب بنوبة حَوَلْ كلما أزفت لحظة الحقيقة، وهو ماذا نكتب حين يسيل الدم في الشوارع وتتسلل إلى رئاتنا رائحة الفحم البشري؟
_______
*المصدر: القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *