أختي أمينة.. المرأة حينما تكون ضحيّة (3)


*محمود شقير


خاص ( ثقافات )
الحلقة الثالثة
1
كانت بنتاً مميزة بين البنات. 
لم أعد أذكر متى رأيتها ترتدي الحذاء لأول مرة في حياتها. لم أعد أذكر أمي وهي تحممها ومن ثم تمشط لها شعرها. أمي نفسها لم تعد تذكر سوى القليل من تفاصيل طفولتها، قالت إنها كانت طفلة جميلة، فيها من ملامح أبيها الشيء الكثير. قالت ( إنها منذ أن أصبحت بنتاً بالغة، علمتها كل شيء يتعلق بتدبير المنزل: كيف تكنس البلاط وتغسل الملابس، كيف تطبخ طعاماً للأسرة، وكيف تعجن الطحين ومن ثم تخبزه على الصاج. قالت إنها كانت بنتاً معدّلة). تتوقف فجأة عن الاسترسال في الحديث، وتستغرب لأنني أسألها عنها. تتطير لاعتقادها أن السؤال عن فتاة ميتة ينطوي على محاذير وشرور. كانت لها صورة جاثمة فوق خزانة الملابس في غرفة أبي التي درجنا على اعتبارها غرفة نومه، وعلى اعتبارها في الوقت نفسه الغرفة التي نستقبل فيها الضيوف. الصورة بقيت زمناً بعد وفاتها، ننظر إليها بشكل عرضي، نقول شيئاً ما عنها، وقد لا نقول شيئاً ونكتفي بالنظر. 
لم أعد أتذكرها وهي تضحك، لم أعد أتذكرها وهي تبكي. لا أتذكر يومها الأول في المدرسة، لا أتذكر حقيبتها المدرسية ولا كتبها، لا أتذكر جلوسها على بلاط الغرفة وهي تنسخ درس القراءة في دفترها، لا أتذكر خطها، لا أتذكر واحدة من شهاداتها المدرسية. إنها مكرسة، بقرار غير معلن منا، للنسيان. 
أخي الطبيب الذي يصغرها بسبع سنوات، قال إنها أخذته معها إلى القدس، في رحلة مدرسية إلى المدينة لحضور فيلم سينمائي تعرضه سينما الحمراء، عن خالد بن الوليد (كيف رأت أختي المدينة آنذاك؟ كيف شعرت وهي تنزل من الحافلة في ساحة باب العمود؟ وهي تمشي في شارع السلطان سليمان، وعلى أرصفته يسير خلق كثيرون؟ كيف شعرت وهي تدخل شارع صلاح الدين؟ وهي تدخل صالة السينما وتجلس لتشاهد الفيلم المقصود؟ وهل كانت تلك رحلتها الأولى إلى المدينة؟ أم سبقتها رحلة أخرى أو رحلتان؟ أجزم أن عدد المرات التي زارت فيها أختي المدينة، لم تزد عن رحلتين أو ثلاث رحلات. أقول رحلات لأن شوقها للقدوم إلى المدينة يعادل أن يكون قدومها إليها في كل مرة، يساوي رحلة كاملة الصفات. وأنا أعرف رحلة أخرى من رحلاتها غير رحلة السينما هذه. إنها الرحلة مع بنات صفها إلى مصور في المدينة، لكي يلتقط لها ولهن صوراً شخصية طلبتها المدرسة منهن. أختي أحضرت صورتها وكانت مسرورة كأنها منحت حياة إضافية. أظهرت الصورة وجهها مكسواً ببهاء يجعلها أنضج مما يفصح عنه عمرها، وأظهرت عينيها وفيهما ضوء خاطف يدلل على طموح وذكاء. ولا أذكر أنني طلبت منها أن تروي لي انطباعها عن المدينة. فما الداعي إلى ذلك وأنا لا أحب أن تكثر أختي من ترددها عليها). قال أخي إنه فرح لهذه الرحلة التي ما كانت لتتم لولا أخته التلميذة، وهو ما زال يتذكرها باستمتاع حتى اليوم. أمي لا تتذكر شيئاً ولا تضيف شيئاً، أو ربما تتطير من إعادة فتح الصفحة من جديد.
2
لو أنها درست في المدينة. لو أنها تخرجت في المدرسة الثانوية. لو أنها ملكت الحرية للذهاب إلى السينما مرة كل شهر. لو أنها اختارت رفيق حياتها دون ضغوط أو إكراهات. لو أنها الآن معلمة مُجدَّة وزوجة وفية. لو أنها الآن أم لثلاثة أولاد وثلاث بنات. لو!
3
ذات صباح، قررت أن أصبح بائعاً. اتفقت على ذلك مع صديقي محمد السلحوت الذي قرر هو الآخر الشيء نفسه. كانت لنا قطعة أرض فيها أشجار تين، بينها تينة “زرقية” تجود علينا كل عام بثمر شهي. وكانت أسرة صديقي استأجرت قطعة أرض مجاورة لأرضنا، فيها أيضاً أشجار تين. قررنا أن نذهب إلى المدينة لكي نبيع التين فيها.
أبدت أمينة استعداداً لمساعدتي في قطف التين، ووضعه في سلة حملتها على رأسها. الشيء نفسه فعلته أخت صديقي، واسمها هي الأخرى أمينة. ذهبنا أنا ومحمد مشياً على الأقدام إلى القدس، والأمينتان تسيران خلفنا وعلى رأس كل منهما سلة تين. لم نركب الحافلة الذاهبة إلى المدينة لكي نوفر بعض القروش، أو ربما لم نكن نملك تلك القروش. أتطلع الآن إلى الوراء وأراقب المشهد فأجده مربكاً. البنتان اللتان لا تتجاوزان العاشرة من عمريهما تسيران صامتتين خلفنا، ونحن نمشي أمامهما لا نفكر بإراحتهما قليلاً، لا نفكر بحمل السلتين ولو لمسافة قصيرة. كنت آنذاك في الرابعة عشرة من العمر، ومحمد في الثانية عشرة.
عندما وصلنا باب المغاربة، (أحد أبواب القدس السبعة، وهو واقع في الجزء الجنوبي من سور المدينة) أي بعد أن مشينا مسافة ستة كيلومترات، طلبنا من البنتين أن تنزلا السلتين من فوق رأسيهما، وأن تعودا من حيث جاءتا. أذعنتا وعادتا إلى القرية. وبدا واضحاً منذ البداية أن دورهما يتحدد في حمل السلتين إلى باب المغاربة. أما دخول المدينة فهو منوط بنا نحن الاثنين.
بعنا التين، وصرفنا المبلغ الذي ربحناه على طعامنا وشرابنا، ولم نفكر آنذاك بالأختين اللتين قدمتا لنا المساعدة. لم نفكر بشراء حلوى أو أي شيء آخر لهما من المدينة. لم نفكر بذلك، ربما لأننا على ثقة من أن البنتين لن تتوقعا شيئاً ولن تتذمرا من شيء.
4
لو أننا، صديقي وأنا، ساعدنا أختينا وتقاسمنا معهما التعب. لو أننا مشينا معاً جنباً إلى جنب. لو أننا سمحنا لهما بدخول المدينة. لو أننا دخلنا المدينة معاً. لو أننا تأملنا أسواق المدينة معاً. لو أننا ذهبنا إلى مطعم في المدينة معاً. لو أننا عدنا من المدينة معاً. لو!.
______
*روائي وقاص فلسطيني. 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *